في القرن الحادي والعشرين، حيث تُزهو العواصم بشواهقها الزجاجية، وتتباهى الأمم بمنصّات حقوق الإنسان ومواثيق العدالة الدولية، وفي عالمٍ تتصدّر فيه شعارات الحرية، وتُعقد فيه القمم من أجل السلام، وتُنشد فيه الأغاني عن الطفولة والكرامة في هذا العالم نفسه، تُزهق أرواحُ الأطفال في غزة جوعاً، وتُدفن جثامين الأبرياء في السودان مرتين، وتصمتُ «الإنسانية» صمت القبور!

أي فضيحة أعظم من أن يموت الإنسان جائعاً على مرأى ومسمع من العالم؟

أي خزي هذا الذي يصيب البشرية حين تتحوّل الطفولة إلى هياكل عظمية تتحرك ثم تسقط بلا حراك؟

في غزة، حيث الجوع لم يعد كلمة، بل سكينٌ مسموم في أحشاء الصغار، وحيث الحصار لم يعد إجراءً عسكرياً، بل مشروع إبادة جماعية بطيئة، يُحكم على الناس بالموت بلا قصف، بل عبر تجويعٍ ممنهج، وصمتٍ دولي لا يقل دمويةً عن القنابل.

تتقاذف الأمم تصريحات الشجب والإدانة، وتستعرض المنظمات الدولية بياناتها الباهتة، بكلمة (مستاؤون)

لكن لا أحد يفعل فعلاً حقيقياً لأجل أطفالٍ تموت تحت أنظار البشر، وليس العدد بقليل فقد صنف 30 ألف طفل حالات سوء تغذية، و260 ألف طفل دون الخامسة بحاجة للغذاء هذا غير المتوفين جوعاً.

في غزة اليوم، لم تقتل القنابل الجميع، فحسب، بل تُرك من تبقى ليموت جوعاً!

أمهاتٌ عاجزات عن إرضاع أبنائهن، وشبابٌ يتحولون إلى أشباح، وطفولة تحبو نحو الموت حتى الأكفان اختفت لكثرة المعروض من الموتى جوعاً وقصفاً من أجل رغيف، أيُّ موتٍ هذا الذي يختار ضحاياه بالحرمان؟ وأيُّ قسوةٍ في أن يكون الجوع أبطأ سلاح إبادةٍ عرفته الحروب الحديثة؟

ومع ذلك، لم تتحرك الأمم، لم ينتفض العالم، لم يُقطع شريان دعمٍ عن الجلاد.

لم تُحاسب إسرائيل، بل تُكافأ بمزيدٍ من الصمت، ومزيدٍ من التواطؤ، ومزيدٍ من الأسلحة! عالم من الرعب ومعارك الخيال التي تنتجها هوليود في السودان، حيث الجسد العربي والأفريقي يشتعل نزيفاً، حربٌ عبثيةٌ أتت على المدن والقرى، قتلت الأطفال، هجّرت النساء، مزّقت البيوت، غير الاغتصابات والانتهاكات غير الإنسانية لكن الفضيحة لم تتوقف عند هذا الحد.

فالموتى يُدفنون في البيوت!

القبور تُشقُّ داخل المنازل، في أفنية الدور والغرف، خوفاً من الرصاص القاتل، فآلة القتل لا تسمح حتى بوداعٍ كريم، فالجميع يقاتل ويمارس الإبادة الجماعية؛ الجيش والدعم السريع والمليشيات الإخوانية الإرهابية، الأم تدفن ابنها بيديها، والزوجة تُهيل التراب على زوجها داخل فناء الدار،

وحين تهطل الأمطار، تُكشف القبور فتعود العائلة، لتدفن فقيدها للمرة الثانية! أو تنقله إلى المقابر الرسمية عندما يصمت صوت الرصاص في وداع متكرر وألم يشق القلوب، أيُّ ذُلّ هذا؟

أيُّ انعدام للكرامة أكثر من أن يتحوّل الوداع إلى فعل مستحيل، وأن يكون الموتى بلا مأوى تحت الأرض، هل سمع العالم؟ هل تحركت الأمم المتحدة؟ هل اهتزّت المنابر؟ هل أصدر مجلس الأمن قراراً بوقف هذا العبث؟ لا شيء.

الصمت هو الرد الوحيد. أين أمريكا التي تدّعي قيادة العالم الحرّ؟ أين أوروبا التي لا تتوقف عن الحديث عن «الكرامة الإنسانية»؟ أين الشعوب التي ملأت الدنيا صراخاً لأجل حقوق الحيوانات؟ مثل تلك الطلة البهية لبرجيت باردو تطلب من المتوحشين أن لا يقتلوا الثعالب التي تحبها ولا يذبح المسلمين الخراف ليأكلوا لحمها، أين الغوغائيون التي تمتلئ خطاباتهم بحماسةٍ جوفاء عن قضية الأمة الأولى؟

يتشدّقون بالإنسانية، ولكن لا يعرفون منها إلا قشورها، يتغنون بالكرامة، لكنهم يدوسونها كل يوم تحت أقدام مصالحهم، غزة تموت ببطء، والعالم يدوّن أرقاماً جديدة في سجلات الإحصاء، لا في صفحات الرحمة.

والسودان يتمزق، ولا شيء يتغيّر سوى القتل ورائحة الموت، إنها ليست مجرد مأساة، إنها فضيحة كونية كشفت كذب الشعارات، وسحبت الستار عن كل الأقنعة.

لم يعد هناك من مكان للحديث عن «العدالة الدولية» ولا عن «حقوق الإنسان»، ولا عن «العالم المتحضر». كلها أكاذيب تكشف زيفها حقائق الواقع المرير، فيا أيها العالم، إن ماتت ضمائرك،

فلا تزعم أنك ناطق باسم الإنسانية.

ويا منظمات العالم، إن كنتم لا تستطيعون حماية من بقي حيّاً فلا تملأوا فضاءاتنا بأكاذيبكم المزعجة، ولا تدّعوا كذباً أنكم تمثلون الضمير العالمي وتمثلون القيم الإنسانية، أوقفوا الحروب المدمرة التي أشعلتها الأيدي الماكرة..

دعوا من مات يُدفن بسلام، وساعدوا المشردين يعودون إلى بيوتهم بكرامة، واطعموا جائعي غزة بكرامة.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.