نشرت صحيفة غارديان البريطانية تقريرا تابعت فيه سيرة عدد من قدامى المحاربين الأميركيين الذين استغلوا خبراتهم لتفنيد الروايات الإسرائيلية بشأن حربها على غزة، والسعي لزيادة الضغوط على الإدارة الأميركية لوقف تسليح إسرائيل.
خلال جلسة الاستماع لمرشح دونالد ترامب لمنصب وزير الدفاع بيت هيغسيث في لجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ مطلع العام الحالي، لفت اثنان الأنظار بستراتهم مع وجود عبارة “الجيش الأميركي” مطرزة على أحد جيبي الصدر وأسماء عائلاتهم على الجيب الآخر.
ويسجل غريغ ستوكر وجوزفين غيلبو حضورا قويا بين آلاف المحاربين القدامى في الحركة المناهضة للحرب بأميركا.
وقد بدأ ستوكر، الجندي السابق بالجيش الأميركي والبالغ من العمر 34 عاما، حملته ضد الحرب على غزة بالصدفة. ففي 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان في منزله في أوستن (تكساس) يشاهد على التلفاز قصف الجيش الإسرائيلي لغزة، فاتصل بصديقه رافيس جانز قائلا “هل ترى ما أراه؟”.
وكان ترافيس جانز، ضابط المدفعية السابق، قد شارك في عمليات عسكرية بالعراق، بينما شارك ستوكر في حرب أفغانستان. ويتذكر ستوكر “كنتُ أفكر: هل يُسقطون حقًا ذخائر هجوم مباشر مشترك وزنها 1000 رطل في واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية على وجه الأرض؟ وكان الأمر فظيعًا للغاية بل كان جنونيا، لدرجة أننا اضطررنا للاتصال ببعضنا البعض لنتأكد من أننا لا نهلوس. حتى لا نُخدع بما يحدث”.
ويعلم الرجلان أن الذخائر المستخدمة تُحدث انفجارا ثانويًا ناتجا عن ضغط زائد، قد يُصيب أو يُقتل أي شخص ضمن دائرة نصف قطرها 50 مترا، والأطفال هم الأكثر عرضة للخطر. ويضيفون أن الموافقة على استخدام هذه القنابل ستحمل في طياته إدراكًا بأنها ستُسبب عددا كبيرا من الضحايا المدنيين.
ويقول ستوكر “أشاهد كل هؤلاء العقداء السابقين في سلاح الجو، هؤلاء الضباط الذين أصبحوا الآن محللين لشبكات التلفزيون يقفون أمام الأمة، على وسائل الإعلام التقليدية، ويكذبون صراحةً بشأن ممارسات الاستهداف الأميركية. ما هو مقبول، وما يتوافق مع قانون الحرب البرية. لقد كانوا يكذبون تماما بشأن كل شيء”.
وشعر ستوكر بـ”تنافر معرفي” فلجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وكان لديه آنذاك 155 متابعا على إنستغرام، وسرعان ما لفت الانتباه بانتقاداته اللاذعة لدعاية جيش الاحتلال الإسرائيلي، مستخدما خبرته الحربية.
فعندما نشر الجيش الإسرائيلي صورة مخبأ صغير من الأجهزة الإلكترونية، زعم أنها مواد لصنع “سترات انتحارية” وردّ ستوكر قائلا إن الصورة تُظهر أدوات تُستخدم لشحن الأجهزة باستخدام الألواح الشمسية أثناء انقطاع الكهرباء عن غزة.
والآن، مع 352 ألف متابع على إنستغرام وحلقات بودكاست، أصبح ستوكر واحداً من أبرز المحاربين القدامى المناهضين للحرب، يقول “بصفتنا محاربين قدامى، نعلم في أعماقنا أننا نشهد جرائم حرب. وكيف يُمكن الدفاع عنها؟ علينا أن نقول ذلك علانيةً”.
ويقول جوش شورلي، البالغ من العمر 49 عاما، وهو جندي مشاة سابق في الجيش، إن العسكريين لديهم خبرة كافية في الصراعات ليعتبروا ما يرونه في غزة فظائع، ويشعرون بواجب التحدث علنًا. ويضيف نائب رئيس منظمة “قدامى المحاربين من أجل السلام” أنه شاهد خلال العام الماضي اهتماما متزايدا بالمجموعة وخاصةً من الشباب.
وهو يعتقد أن هذا يُعزى إلى الصور القادمة من غزة، ويقول “نتلقى شهريا مكالمات هاتفية من قدامى المحاربين الراغبين بالانضمام إلينا، تفوق بـ3-4 أضعاف عدد المكالمات في السنوات السابقة”. ويعتقد أنه كلما زادت المعارك التي خاضها الفرد، زاد التزامه بالسلام، رغم أن ثقافة الولاء والامتثال في الجيش تُصعّب المعارضة.
ويشير شيرلي إلى الرائد هاريسون مان، وهو أعلى مسؤول في الجيش الأميركي رتبةً يستقيل بسبب غزة، ويقول إن كل مرة يُعبّر فيها شخص ما عن رأيه يُخفّف ذلك من وطأة الخوف على الآخرين.
وبدورها تدير بريتاني راموس ديباروس، النقيبة السابقة في الجيش البالغة من العمر 36 عامًا، منظمة لقدامى المحاربين ضد الحرب التي أسست في حقبة ما بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. وبالنسبة لمجموعتها، تزايد الاهتمام بالمشاركة مع المجموعة عام 2020 مع مقتل جورج فلويد، واستمر في الارتفاع بثبات خلال الأشهر الـ14 الماضية.
وتقول ديباروس “كل مرة يُكشف فيها القناع -حيث يصعب التشبث بأوهام النضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان وما إلى ذلك- يتواصل المزيد من المحاربين القدامى مع الجيش. وقد انضمت الغالبية العظمى منا إلى الجيش لأسباب اقتصادية، لكننا نبرر ذلك أيضا أو نتصالح معه بإيماننا بأننا سنساعد الناس أو نخدمهم أو ندعم القيم التي قيل لنا إن بلدنا يدافع عنها”.
تطهير عرقي
احتج المحاربون القدامى أمام مصانع الأسلحة وقواعد القوات الجوية، وساروا لمسافة تزيد على ألف كيلومتر من ولاية ماين إلى واشنطن العاصمة، واعتصموا في معسكرات الطلاب، وقدموا عرائض، وأطلقوا حملات على وسائل التواصل، وتجولوا في قاعات الكونغرس للتعبير عن غضبهم إزاء استمرار توريد الأسلحة إلى إسرائيل.
وبعد مقتل هند رجب، البالغة من العمر 5 سنوات، خاطب آلان شيبارو، الجندي المخضرم في القوات الخاصة الأميركية، مجلس مدينته في جلسة استماع عامة قائلا “هذه ليست حربًا. هذا هو التعريف الحقيقي للتطهير العرقي. يجب أن يتوقف هذا”.
وتقول غيلبو -وهي أم 4 أطفال- إنها حفظت صور كل طفل شهيد في غزة تراه على حساباتها على مواقع التواصل. ويحتوي ألبومها على هاتفها الآن على آلاف الصور. وتقول “لستُ بحاجة لمعرفة ما تقوله وسائل الإعلام. أستطيع أن أرى بأم عيني ما يحدث”.
وكانت الضابطة السابقة بوكالة استخبارات الدفاع تتناول البيتزا مع عائلتها في لويزيانا. وقد ازداد غضب والدتها وشقيقتها من إصرارها على الحديث عن الحرب. وحثتها شقيقتها قائلة “لماذا لا تخبرين العالم أجمع؟”.
وقبلت غيلبو التحدي، وزادت نشاطها الدؤوب عبر حسابها على إنستغرام، الذي يتابعه 19 ألف متابع، كما عملت برفقة منظمة “قدامى المحاربين من أجل السلام” وزارت جميع أعضاء الكونغرس، وسلّمتهم رسائل تطالب بفرض حظر على توريد الأسلحة إلى إسرائيل والتحقيق في مزاعم ارتكاب مسؤولين في إدارة الرئيس السابق جو بايدن أفعالا إجرامية.
وقد سردت الرسالة القوانين التي تقول منظمة “قدامى المحاربين من أجل السلام” إنها تُنتهك، بما في ذلك قانون جرائم الحرب الأميركي، وقانون مراقبة تصدير الأسلحة، وقانون ليهي. والتي تمنع جميعها وصول الأسلحة إلى الدول التي تُخالف اتفاقيات جنيف أو تُسبب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
وتقول غيلبو”بفضل خبرتي في الاستخبارات العسكرية، أعلم أن لدينا التكنولوجيا التي تُمكّننا من معرفة من في تلك المواقع والمباني بدقة. لذا، فإنهم يستهدفون المنازل ويقصفونها، وهم يملكون معلومات عن وجود أطفال في الداخل وعددهم”. وتضيف “الخسائر المدنية كارثية.. هذا ليس دفاعًا عن النفس”.
نحن متنمرون
في سبتمبر/أيلول الماضي، حضرت، الضابطة السابقة ريبيكا روبرتس البالغة من العمر 30 عاما، احتجاجا على خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الأمم المتحدة. وتقول روبرتس إنها أدركت بعد سنوات في الجيش أن المعتقدات التي نشأت عليها بدأت تتلاشى، وأضافت “أدركتُ كم نحن منافقون. نحن الأشرار. نحن متنمّرون للغاية”.
وقبل خطاب نتنياهو أمام الأمم المتحدة، وقف ستوكر وجانز وغيلبو وروبرتس، مرتدين سترات عسكرية وكوفيات ضمن حشد من آلاف الأشخاص، بينهم محاربون قدامى، يحملون لافتة كُتب عليها “المحاربون القدامى يطالبون بوقف إطلاق النار وحظر الأسلحة الآن”.
وامتلأ مركز تجنيد الجيش في تايمز سكوير بملصقات “وقف إطلاق النار” ووقف ستوكر أمام شاشة تعرض إعلان تجنيد جريء ليبثه مباشرة على حسابه على إنستغرام، وقال “صدقوني يا رفاق، لا تريدون أن تضيعوا شبابكم وتدفنوا أصدقاءكم من أجل هذا”.
واستمرت المظاهرة حتى المساء، مستقطبةً الناس والضجيج والزخم. وبحلول التاسعة مساءً، وبينما كان المتظاهرون يتجمّعون في شارع بارك أفينيو، أثاروا غضب الشرطة، فوجد جانز نفسه محاصرًا بضباط قيدوه بالأصفاد واعتقلوه واقتادوه إلى مركز الشرطة. ويقول إن ضابط الشرطة الذي أوقفه نظر إلى سترته العسكرية المزخرفة وسأله من أين حصل عليها. وعندما أخبره أنها سترته، قال الضابط “آه. ظننتُ أنك اشتريتها من متجر للملابس المستعملة”.