وسط الأمواج، سطّرت أنوار سهيل، حكاية استثنائية لامرأة قرّرت أن تصنع لنفسها مكاناً على خارطة البحر. لم تكن الصيّادة السعودية، مجرّد عاشقة لهدوء البحر، بل غاصت في أعماقه، تحمل السنارة بثقة، وتنسج من تجاربها حكاية مليئة بالتحدي والشغف.
أنوار واحدة من القليلات اللاتي اقتحمن مجال الصيد، بجرأة وإصرار، لتكسر الصورة النمطية، وتثبت أن لا حدود لطموح المرأة حين تؤمن بذاتها. وفي هذا الحوار، تقترب «عكاظ» من عالمها، تستمع لحكاية بحرٍ، وأبٍ آمن بها، وزوجٍ دعمها، وبدايات نسجت بماء الموهبة وعقد العزيمة.
تقول: من شاطئ الشعيبة بدأت أول خيوط العلاقة بيني والبحر، كنت أرافق والدي -رحمه الله- وزوجي في رحلات الصيد الطويلة، أراقب البحر بصمت. لم أكن مجرد مرافقة، بل أرقب التفاصيل.
ولاحظ والدي شغفي، فأوصى زوجي بأن أتعلّم الصيد بأبسط الأدوات، بداية تعليمي بقارورة ماء بلاستيكية صغيرة، وخيط، وطُعم، ليبدأ مشواري مع أول سمكة اصطدتها سمكة (أبو نقطة) لم تكن مجرد بداية، بل لحظة تحول، وسرعان ما تحوّل الشغف إلى إدمان جميل، وبداية علاقة لا تنتهي مع البحر.
التحدي في التيار لا في الموج
تضيف أنوار: خوض هذا المجال لم يكن مجرّد قرار، بل تحدٍ حملت فيه رغبتي في إثبات الذات كامرأة تمتهن مهنة يندر أن تمارسها النساء. كنت أحب أتحدى والدي وزوجي، وكان والدي دائماً يقول لي «أنتِ مرزوقة». ورغم أن رحلة الصيد كانت ممتعة فإن التحدي الأكبر كان في قلة المواقع المتاحة على الشاطئ لممارسة الصيد. فقد شكّل منع الصيد في بعض المناطق حاجزاً، وجعل من الوصول إلى أماكن مناسبة تحدياً حقيقياً لا يقل عن تحديات البحر ذاته. الصيد بالنسبة لي ليس مجرد رمية سنارة وانتظار، بل تجربة تتخطى حدود الهواية. يجذبني في الصيد متعة الاكتشاف وروح المغامرة، وتحدٍّ متجدد مع كل رحلة، وفي كل مرة ألقي فيها الطُعم أشعر وكأنني أمام مغامرة جديدة، لا تشبه سابقتها فالبحر بالنسبة لي ليس فقط مكاناً للصيد، بل مسرح يختبر فيه الصيّاد صبره، حماسه، ومهاراته. هناك، تتقاطع لحظة الصيد مع لحظة الانتصار، وتشعره أن المتعة لا تكمن في عدد الأسماك، بل في قصة كل سمكة.
طقوس البحر.. تنتهي بالسنارة
تقول أنوار إن رحلة صيدها اليومية تبدأ من سوق السمك: أبحث بعناية عن الطُعم الطازج، لأن الطُعم الجيد يعني رحلة صيد ناجحة. بعدها، أتفقد أدواتي وارتّب مستلزماتي بدقّة، لأن كل قطعة في عُدة الصيد لها دور.
وتوضح أنوار في حديثها لـ «عكاظ» أنها تُفضّل الانطلاق في ساعات الصباح الباكر، إذ يكون البحر ساكناً والهواء نقياً، «الصبح يمنحني تركيزاً أكثر، وصفاءً ينعكس على تجربتي في الصيد، وكأن البحر يفتح لي قلبه في تلك اللحظات».
تتوقف أنوار عن الحديث وكأنها تستجلب الماضي وذكرياته التي تحتفظ بها، وتقول: المواقف بسيطة لكنها خالدة في القلب. وتروي: من أجمل اللحظات التي عشتها حين تأتي عائلة أو مجموعة أطفال يرغبون بخوض أول تجربة صيد. أشرح لهم الخطوات، وأرافقهم خطوة بخطوة، حتى ينجحوا في اصطياد أول سمكة «حين أرى الفرح على وجوههم، أشعر وكأنني ساهمت في خلق ذكرى لا تُنسى لهم».
في تلك اللحظات، لا أكون مجرد صيّادة؛ بل مرشدة، وسبباً في صناعة لحظة فرح قد تبقى في ذاكرة طفل مدى العمر.
ليست هواية.. أسلوب حياة
بلغة الواثق والمحب للبحر، تقول أنوار: البحر ليس مكاناً نقصده أحياناً، بل عالم تعيش تفاصيله يوماً بعد يوم، الصيد بالنسبة لي أسلوب حياة بكل تفاصيله، من الغوص، لاختيار الطُعم، لفهم سلوك الأسماك، وحتى الوقوف أمام البحر بتأمل. كل رحلة تحمل دروساً جديدة، وكل موجة تُضيف لي شيئاً مختلفاً. «لم أعد أرى الصيد كهواية أو حتى مهنة، بل أراه رحلةً مستمرةً لا تنتهي، تتجدد فيها التجربة ويُعاد اكتشاف الشغف في كل مرة.
وتؤكد أنوار، أنها لم تصل إلى ما وصلت إليه لولا الدعم الذي تلقّته منذ اللحظة الأولى: «كان والدي -رحمه الله- أول من آمن بشغفي، هو من زرع في داخلي حب البحر وعالم الصيد ثم أكمل زوجي وأسرتي هذه المسيرة بالدعم والتشجيع، دون تردد أو تقييد».
قبول وطاقة وبحث عن التطوير
ولم يكن دعم العائلة وحده، فالمجتمع من حولي احتضن تجربتي بتقدير واحترام، إذ وجدت قبولاً واسعاً من المحيطين بي، وهذا منحني طاقة للاستمرار، بل والبحث عن التطوير والمزيد.
أحلام أنوار، لم تتوقف، بل تواصل البوح: مع الوقت تحوّل شغفي إلى مسؤولية أحلم أن أترجمها على أرض الواقع. لم أكتفِ بالصيد هوايةً أو مهارةً، بل أصبحت أفكر في ما هو أبعد، «أطمح إلى تأسيس أكاديمية متخصصة لتعليم فنون الصيد، تكون مساحة لكل فتاة مهتمة بهذا المجال، يتعلّمن فيها كل شيء من الصفر حتى التمكّن، من أدوات الصيد إلى التعامل مع البحر وقراءة أسراره.
فأنا أؤمن أن الحرفة حين تُشارك تُصبح تراثاً، وتلك هي رسالتي: أن تفتح الأبواب لغيري من النساء، ليخضن التجربة بثقة، كما فعلت أنا».
الشغف لا يعترف بالحدود
لا ترى أنوار سهيل، نفسها فقط صيّادة، بل امتداد لجيل من النساء والرجال الذين عاشوا على ضوء البحر وصوت الموج: نحن لا نبدأ من الصفر، بل نواصل إرثاً عريقاً خلّفه لنا الأجداد. الصيد كان ولا يزال جزءاً من الهوية الساحلية، وممارسته اليوم هي امتداد لذاكرة المكان وثقافته. ما أفعله هو إحياء لجانب من تاريخنا بطريقة معاصرة.
الشغف لا يعترف بالحدود، ورسالتي لكل امرأة سعودية طموحة، أن تحاول خوض تجربتي، تجربة الصيد غيّرتني، علّمتني الصبر والانتماء للطبيعة، ومنحتني مساحة لأكون نفسي. أقول لكل امرأة لديها حلم خارج المألوف: لا تنتظري، ابدئي الآن، امنحي نفسك الفرصة، فالإصرار لتحقيق الأهداف لا يعرف جنساً، والشغف إذا اقترن بالإرادة، يصنع قصصاً ملهمة تستحق أن تُروى.
أخبار ذات صلة