للحبِّ سُلطة ليست كغيرها من السلطات، هي سُلطة تغليب المحاسن على المساوئ «وإذا الحبيبُ أتى بذَنْبٍ واحدٍ، جاءت محاسنُه بألفِ شفيع» وما من مُحبٍّ يهاب حبيباً إجلالاً له إلا دام حبه، وتوطدت أواصره، وتجذّرتْ أسبابُ دوامه، ومن يهابك إجلالاً، ليس كمن يهابك مخافةً وإذلالاً.
ولا أتصوّر أنّ فقهاء السياسة الشرعية، وضعوا قواعد في فنّ إدارة (الرعيّة) بالمحبّة، علماً بأنّ آيات الذكر الحكيم، عامرة بالوصايا الداعية إلى الحّب واللطف والعفو، فالله، توعّد المؤمنين، إن ارتدوا عن دينهم، أنه سيأتي بقوم يُحبّهم ويحبّونه، فبدأ بمحبته -جل وعلا- لهم، قبل محبتهم له، والله يُحبُّ المحسنين، ولا يُحبّ المعتدين؛ والنصوص الشرعية تُعلي من شأن الرِفق، وتزكّي كفة الإحسان في المعاملة، على المستويين العام والخاص.
ولعل من طبيعة السُّلطة؛ أنها تنزع إلى القسوة والشدة، لا عن رغبة وقناعة صاحب الأمر، بل لطبيعة الجِبّلة البشريّة للشعوب، التي تأنس للدعة والفوضى والعبثية أحياناً، فالحزم ضرورة، وكما أنه لا وصول للجنة إلا على صراط ممتد على الجحيم، مصداقاً لقوله تعالى (وإن منكم إلا واردها) فكذلك شأن الحياة والأحياء؛ لا بلوغ لحالة السّلم الاجتماعي، والتعايش وتطبيق الأنظمة، إلا بهيبة دولة، وجسارة حاكم، ورُقيّ تشريع، وعدالة تطبيق.
وربما كان بعض الحكّام في التاريخ الإسلامي، إضافةً لأهليّتهم البيولوجية والعلمية، والإدارية، أصحاب فقه في دين الله، ولديهم إحاطة كافية بالتاريخ، ما دفعهم لإعلاء شأن المحبّة، تفادياً للكراهية، خصوصا عندما يوقنون بأن شعوبهم عاطفيون، فيحفظون شعرة المودة، ويحمونها من شرور ومحفزات القطع، خصوصاً القطع المعنوي.
ولعل أوثق عُرى علاقة الإنسان بالله -جل وعلا- ناشئة عن محبة مخلوق، وقبول خالق، فالمحبة تُنتج طاقة إيجابية للإحسان والعطاء والسمو في القول والفعل والأخلاق، وكلما زاد الحُبّ لله، صدقاً لا ادّعاءً، استشعر العبد هيبة الله، وتحاشى أي موطن سوء أو ريبة، فالحياء ممن تحبّ ليست كالحياء ممن تخاف، والذي يخاف الله بصورة مبالغ فيها (مَرضيّة) تبلغ مرحلة الهلع، ربما يقع في اليأس ويقنط من رحمة الله، وتنقلب العلاقة إلى نفور، وإن تسامى جناب الربوبية عن القطيعة والجفاء.
أتصوّرُ أن السُّلطة بالحب، أقوى من التسلّط بالحرب، لأن الذين غلّبوا سُلطة الحرب خسروا واندثروا، ولطالما ذهبت سلطات الحروب، بالطالب والمطلوب، لأنّ المحارب هاجسه الأخذ، والمُحبُّ تفكيره في العطاء؛ والمحبة دافع للفداء في سبيل من غرس في روحك محبته، وهي سلطة أدوم وأكثر عافية، وليست ظاهرة السُّلطة بالحُبّ قاصرة على شعب وحاكم، بل تتعدى إلى كل علاقة إنسانية، يشعر كل طرف أن علاقته بالآخر تحكمها، سلطة شعورية، تتمثل في القبول والرضا والامتثال والتسامح والتجاوز والتغافل، وعدم التركيز على الهنّات والزلات.
وكم يؤسف الوعي، أن تنتقل علاقة أزواج، من باحة الحُبّ إلى ساحة حرب، وأن يمارس كل من الأب والأم؛ على الأولاد سلطةً رعناء، أفقدت الأسرة المحبة، وانقلبت إلى كراهية أو تمرد، فالسُّلطة بالحُبِّ، فنّ إدارة بإرادة، ولا يعني ذلك، بث الرعب، أو التنفير، بل توفير المساحة الآمنة، اعتباراً بما أتاحه الله للمذنبين من سعة ورحابة للتوبة، وسيدنا موسى أجاب عن السؤال عما في يمينه بقوله (هي عصاي، أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى) فقدّم التوكؤ على الهشّ.
لا أعني بالطبع أن تكون السُّلطة بالحُبّ هلاميّة، فلو غدت رخوة متهاونة ومسالمة على امتداد الوقت، لربما يمتطيها ضعاف النفوس، لصالح مطامح ومطامع خاصة، تؤذي العاشق والمعشوق، ومن شعر الحكمة «فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً، فليقسُ أحياناً على من يرحم».
ومن حقنا التباهي بأننا في مجتمع، تربطنا فيه مع بعضنا، علاقة المحبّة، لأننا نُحبُّ الله، عزّ وجلّ، ورسوله عليه الصلاة والسلام، ونحبُّ الوطن وقيادته، وبالحُبّ نقدم نموذجاً أمثل في التلاحم، والاعتزاز بما تحقق وما سيتحقق، ولن نبدّل نعمة الله كُفراً، لأننا نؤمنُ بسلطة الحُبّ، التي هي الأسمى والأقوى والأعلى والأبقى.