بهروب الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وانهيار الجيش، وسقوط دمشق وحمص وحلب وحماة والسويداء وغيرها في أيدي الفصائل السورية المعارضة المسلّحة انطوت حقبة مهمة من تاريخ سورية الحديث، هيمن على نحو ستة عقود منها نظام الأسد الأب حافظ ثم الابن بشار. ولا شك في أن ما ينتظر السوريين ونظامهم الجديد تحديات جمة. يتصدرها بسط الأمن والاستقرار، لتتسنى لملايين النازحين واللاجئين السوريين العودة إلى منازلهم وأهلهم وديارهم، وما قد تتطلبه تلك العودة من بناء وإعمار، وإعادة إعمار. وهي فترة آمل؛ على رغم أهميتها وضرورتها، أن لا تطول، في صراعات ونزاعات وانقسامات داخلية وتدخلات خارجية. شخصياً، قابلت بشار الأسد، وجهاً لوجه على الأقل ثلاث مرات خلال فترة حكمه؛ كانت إحداها جلسة مطولة، وإثر متابعتي اللصيقة للشأن السوري، أدركت أنه لم يكن منذ بدء الثورة السورية في عام 2011 رجل المرحلة، فقد رَكَن منذ بداية عهده إلى تكليف أجانب وبلدان أخرى بالدفاع عن بلاده، التي تملك جيشاً ليس سهلاً سبق أن واجه إسرائيل بنِدِّيَّة، في آخر الحروب العربية مع إسرائيل (1973). ولكن هذا الجيش انسحب أخيراً من جميع معاقله، حتى على المنطقة العازلة على الحدود مع إسرائيل، اليوم انفتح بعد هروب الأسد الكثير من الأبواب والمزيد من التكهنات والتخرصات حول مستقبل سورية الجديدة! ولعل أكبر خشية أن تنتهز قوى إقليمية أخرى حالة «التيه» السياسي والأمني التي تشهدها سورية منذ هروب بشار، وانهيار نظامه، وقبر أيديولوجية «البعث»، وما نشأ عنها من «قومية» سَمِجَة، اقتطعت من سورية المزيد من الأراضي! من المؤكد أن هروب بشار وسقوط نظامه نهاية لمعاناة الشعب السوري من تسلّط «البعث»، وقبضته الأمنية الحديدية التي ملأت السجون بالمعتقلين، والمخفيين قهراً وقسراً، وارتفاع أعداد القتلى في سجون النظام جرّاء التعذيب. ولكي يستفيد الشعب السوري من شعارات ثورته التي اندلعت في عام 2011، على رغم تعقيدات المشهد الراهن، لا بد من أن يتحلى الساسة والقادة وجميع ألوان الطيف السياسي السوري بالتأني، والصبر، وتفويت الفرص على المتربصين والمندسين والطامعين، لينكب الشعب السوري بإرادة صلبة على إعادة إعمار ما دمره «الربيع العربي» من مُقَدَّرات سورية من الثروات الطبيعية والبشرية، لتصبح عودة السوريين الذين شرَّدتهم سياسات بشار ممكنة، لدولة آمنة جديدة تبسط العدالة والمساواة، وتحمي الأقليات العرقية والدينية. لا شك في أن التطورات السورية وانكسار الجيش زاد المشهد العربي قَتَامةً، في وقت تنزف فيه الأمة العربية الكثير من دماء الأبرياء، في فلسطين، ولبنان. وعلى رغم تريث بعض الدول في اتخاذ موقف واضح من «سورية الجديدة»؛ فإن الفرصة أمام السوريين كبيرة جداً في البدء بحلحلة مشكلات سورية – الأرض والشعب. وهو شأن ليس بالعسير، إذ يتطلب وحدة وطنية خالصة، وتفاهماً معمَّقاً بين فئات الشعب السوري لا يستثني أحداً، وبسط دبلوماسية ذكية تستعيد علاقات سورية الخارجية، وتعيد دمشق إلى قلب الحراك العربي والدولي، ويبقى السؤال: إلى أين ستتجه سورية، بعيداً عن التسرع في التحليلات والتخمينات والتخرصات؟ ومتى ستنتهي المظاهر المسلحة، ويتوقف عبث الجماعات المتطرفة؟ الأكيد أن كل الآمال أن لا تنتقل سورية، من «البعث» إلى «العبث». لذلك، على سورية الجديدة النأي عن سياسة الأقطاب، والتحالفات المضرَّة غير المُنتجة؛ إذ إن التعاون العربي والدولي يتطلب مراعاة أي خطوطٍ حُمُر تتعلق بأمن سورية ومحيطها وهويتها وتنوعها. وهي مهمة أعتقد أن سورية الجديدة عليها أن تفطن لها حتى ترسّخ نظامها الجديد، الذي نأمل أن يتعافى سريعاً من الأعباء الثقيلة التي أورثها بشار وقبله والده وجرائم «البعث» على مدى ستة عقود. وهي مهمة لا شك بأن السوريين قادرون على القيام بها، في ظل فسيفساء التنوع الحضاري الذي تزدهي به، بسن قوانين وتشريعات مدنية ترسّخ مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية للجميع بلا استثناء.