مع طغيان أخبار الحج استرجعت ذاكرتي تجربة حجتي الأولى، كنت في السادسة عشرة من عمري برفقة مجموعة من زملاء المدرسة ضمن حملة خاصة قادمة من الكويت حيث كنت أدرس، كانت رحلة طويلة استغرقت أكثر من ١٦ ساعة دون توقف سوى للتزود بالوقود، أصابني فيها الجوع الشديد، وكان الأمل بوجبة دسمة عند الوصول، كما وعدنا المرافقون الأكبر سناً، لكن عند وصولنا تبين أن مضيفينا قد سبقونا بتناول وجبتهم ولم يحسبوا حسابنا ولم يتوفر لنا سوى قدر ضئيل من الطعام، وما زلت أذكر أن نصيبي منه كان لقمة واحدة من أرز بارد!
بعد الاستقرار في المخيم خرجت إلى الممرات الفاصلة بين المخيمات لأجد عشرات الخيم الخاصة التي انتصبت فيها قدور الأرز البخاري الضخمة لتبيع الوجبات للحجاج، كانت الرائحة ساحرة والجوع شديداً، لكن شعوراً غريباً بالخجل انتابني من شراء وجبة في الوقت الذي كان فيه زملائي جوعى، ولا أدري لماذا انتابني هذا الشعور ولماذا حرمت نفسي من إشباع جوعي، وما هو الخطأ الذي كنت سأرتكبه لو أنني التهمت بحر مالي طبقاً من ذلك الأرز الشهي الذي تعلوه قطعة من الدجاج المحمر، وعندما أتذكر ذلك الموقف السخيف أتساءل ما إذا كان هؤلاء الزملاء قد كبحوا شعور جوعهم مثلي أو ملؤوا بطونهم كما يجب أن يفعل أي جائع!
في تلك الرحلة تلقيت صدمتي الأولى من الملاسنات والمشاجرات التي تشتعل بين بعض الحجاج عند التدافع، وسمعت كثيراً عبارة «حج يا حاج» للتفريق بين المتلاسنين والمتشاجرين، فقد كنت أتخيل أنني ذاهب إلى تظاهرة إيمانية تصفو فيها القلوب والنفوس ويتحول فيها العباد إلى ملائكة تمشي على الأرض، لكن الحقيقة أن كثيراً من الحجاج كانوا أشبه بأعواد الكباريت المستعدة للاشتعال عند أقل احتكاك!
أخبار ذات صلة
رغم ذلك كانت تجربة مسلية لمثل من هو في مثل عمري حيث تطغى روح الاستكشاف والمغامرة، لكنني عند العودة لم أعتبرها حجة مثالية، وعقدت العزم على حجة أخرى أديتها بعد ١٥ سنة، وكانت الأجواء مختلفة، حيث منعت الخيام واختفت قدور البخاري، وحلت محلها مخيمات الحملات المرخصة بمطابخها الخاصة وبوفيهاتها المنوعة، لكن شيئاً واحداً لم يختلف وهو سرعة اشتعال أعواد الكباريت البشرية!
باختصار.. رغم المشقة تبقى تجربة الحج الذكرى الأميز في حياة أي مسلم، وتبقى رائحة ذلك «البخاري» الذي حرمت نفسي منه عالقة في ذهني حتى اليوم!