في كل دورة من دورات السوق العقاري، تعود بعض الممارسات القديمة بثوب جديد. مشاريع تحمل أسماء براقة ووعوداً ضخمة بالعائد، لكنها في جوهرها ليست إلا جمعاً للأموال دون ترخيص أو حساب ضمان أو إفصاحاً حقيقياً. تغيرت الشعارات، لكن المضمون واحد: استغلال الثقة والطموح العقاري لتحقيق مكاسب على حساب وعي المستثمر البسيط.

ما يجري اليوم تحت مسمى «التطوير العقاري» يستدعي وقفة جادة. فبعض الشركات تُمارس أعمالاً أقرب إلى جمع المساهمات دون أن تدخل تحت المظلة النظامية التي حددها نظام المساهمات العقارية. النظام واضح في اشتراط الترخيص المسبق، وفتح حساب ضمان بنكي، وتعيين مشرف معتمد من الهيئة العامة للعقار، وتقديم إفصاحات مالية دورية. وكل من يتجاوز هذه المنظومة لا يُعد مطوراً، بل مخالفاً يعرض نفسه والآخرين للمساءلة.

وجاء تحرك الهيئة العامة للعقار مؤخراً بإحالة عدد من الحالات إلى الجهات المختصة ليؤكد أن زمن التساهل قد انتهى، وأن جمع الأموال خارج الأطر النظامية لم يعد يمر دون مساءلة، في خطوة تُترجم إرادة الدولة في ضبط القطاع وحماية السوق من الممارسات العشوائية.

ورغم وضوح الأنظمة، ما زالت بعض الإعلانات تُغري الناس بعوائد خيالية، ومواقع «قيد التطوير» لم تُصدر لها أي تراخيص. وقد يظن البعض أن المخالفة شكلية، لكنها في الواقع بوابة إلى خسائر كبيرة، لأن أي مشروع بلا حساب ضمان رسمي أو إشراف من جهة مرخصة يعني ببساطة أن أموال المساهمين خرجت من المظلة القانونية. وهنا تتضح أهمية الوعي الاستثماري بوصفه شريكاً للنظام لا بديلاً عنه.

الحماية الحقيقية لا تبدأ من الجهات الرقابية فقط، بل من وعي المستثمر نفسه. حين تُعرض عليك فرصة عقارية، اسأل عن رقم الترخيص، واطلب الاطلاع على مستند فتح حساب الضمان، وتأكد أن التحويل البنكي يتم باسم المشروع لا باسم شخص أو شركة غير مرخصة. لا توقّع ولا تدفع قبل أن ترى الوثيقة النظامية التي تربطك بالمشروع. فكل عقد واضح يحميك، وكل غموض هو إنذار مبكر.

الهيئة العامة للعقار بخطواتها الأخيرة أثبتت أنها تتحرك بحزم؛ إذ أحالت حالات عدة للنيابة العامة بعد ثبوت جمع أموال بطرق غير نظامية. لكنها لا يمكن أن تلاحق كل إعلان أو كل وعودٍ عبر المنصات، ما لم يتحرك وعي السوق. فالمسؤولية هنا مشتركة: جهة تنظم، ومستثمر يتحقق، وسوق يبني ثقته من خلال الشفافية لا الوعود.

والحل المستقبلي يكمن في أداة بسيطة وفعّالة: منصة تحقق وطنية تتيح لأي شخص إدخال اسم المشروع أو الشركة فيظهر له فوراً مدى نظاميته، ورقم الترخيص، وبيانات حساب الضمان، واسم الجهة المشرفة. حينها فقط تتحول الثقة من عاطفة إلى نظام.

إن أخطر ما يواجه سوق العقار اليوم ليس قلة المشاريع، بل كثرة الطامحين الذين يختبئون خلف شعار «التطوير العقاري» دون أن يدركوا أن التطوير لا يكون إلا بالترخيص والحوكمة والالتزام. وحين يختلط التطوير بالتحايل، تصبح الحماية مسؤولية الجميع: الدولة التي تنظم، والمستثمر الذي يتحقق، والإعلام الذي يذكر بأن المال بلا نظام هو أول طريق الخسارة.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.