كانت تشبه شجرة السنديان بصبرها، وقد أثقل الزمان عينها بموت زوجها الذي تركها تصارع الظروف، ومتطلبات ابنتها الطفلة الوحيدة التي لا معيل لها سوى أمها، توالت السنوات فيما ابنتها آية التي كانت آية في أخلاقها وخلقها قد تخرجت من الجامعة تحمل إجازة في اللغة العربية، الاختصاص الذي أحبته منذ أن كان أبوها يسمعها القصائد ويقرأ لها القرآن، أرادت أنْ تعيد لأمّها ذلك الفضل لعلها تردُّ لها من قليل القليل الذي تشعر به تجاهها، فلولا صبرها وتحملها تبعات الدراسة لم تستطع أن تكمل دراستها، وتحصل على حلم الشهادة الجامعية الحلم الذي طالما أرادت تحقيقه على أرض الواقع. جاءت إلى أمها، قبّلت رأسها ويديها مبتسمةً قالت لها: لقد نذرت يا أمي لله أنه إذا تخرجت أن أعلمك القراءة والكتابة.
ضحكت الأم وردّت: أبعد هذا العمر يا بنيتي؟ الله يسعدك بحياتك، المهم عندي أنك درست، وتخرجت، عيشي حياتك.
– وستعيشينها معي، ردَّت البنت التي أصبحت تحمل الشهادة الجامعية.
قدَّمت لأمها كتاباً وقالت لها: هذا الكتاب سيعلمك القراءة والكتابة، ومن خلاله سيكون بإمكانك قراءة القرآن الكريم الذي تحبين الاستماع إليه.
دارت تساؤلات كثيرة في بال الأمّ الأُميّة، أرجعتها الذاكرة التي تكاد تغيب عن أشياء كثيرة في حياتها، لكنَّها لا تنسى أبداً صورة شبابها عندما كانت في عمر ابنتها، لم يكن ثمة تعليم في المنطقة، حاولت التهرب من الموقف الذي وجدت نفسها فيه أمام ابنتها المتعلمة وبلهجة محبّة قالت:
– يا بنتي، أنا الآن في خريف العمر، وقد غربتْ شمسي، وأسأل الله حُسْنَ الختام، الله يرضى عليكِ، اتركيني فما عاد في العمر ما يستاهل التعب.
– لكنّه نذر يا حبيبتي يا أمي، وأنا أريد أن اكتشف قدراتي معك، ضمَّتْها بحنان، مسحت شعرها، انهمرت دمعة من عيني الأم على خدِّ البنت، مسحت البنت دمعة الأم، وقالت: تعرفين أن الطبيب بحاجة كي يتدرَّب، والمحامي أن يتمرَّن، فهل تريدين أن تكون ابنتك معلمة فاشلة؟ سأعلمك، وهذا نذر يجب أن أوفيه، الآن جاء وقت وفاء الدين أرجوك هذا فرضٌ عليّ، وأكثر من واجب، بل هذا أقلّ القليل من الديون التي لك في ذمَّتي.
استعادت الأم صورة أبويها الأميين وواقع حال الزمن الذي كانت تعيش فيه، وكيف تبدلت الحياة، وأردفت: هل تعلمين يا آية أنتم في هذا الزمن محظوظون؟ على دوري لم يكن هناك مدارس ولا تعليم، -ومع ابتسامة- لو أني درسْتُ كنت الآن مثلك أحمل شهادة جامعية، ولو لم أكن ذكية، لما كنتِ الآن جامعية.
قبّلتها وهي تردّد: الحمد لله ما خاب ظني فيك، وقد حقق الله حلمي في أنك أنهيت تعليمك.
وسارعت آية، وبحركة دلال، أشعرت الأم بأن ابنتها ما زالت تلك الطفلة التي إذا أصرَّت على أمر، فلا بدَّ أن تفعله، فهي تشبهها في ذلك، وأنا حلمي يا أمي الحبيبة أن أعلّمك.
لم يكن أمام الأم سوى أن تهزَّ رأسها موافقة، وهي تقول: ذنبك على جنبك، وعليك أن تتحمَّلي طالبتك التي قد لا تكون ذكية مثلك.
ومرَّت الأيام.. كانت الأم قد تشبَّعت بفكرة ابنتها أصبحت تستيقظ قبلها، تقرأ حروف اليوم السابق، لم تعد تخرج إلى زيارات الجارات، قلَّلتْ من ساعات نومها، صار شغلها الشاغل أن تجيد القراءة، وأن تتعلَّم جمع الحروف ونطقها، كانت تشعر بالسعادة البالغة، وهي تنطق جملة متكاملةً من دون أن تخطئ بكلمة، شعرت بشعور جميل يدبُّ في دمها، كانت تحمد الله على أنه وهبها هذه البنت، أصبحت تقرأ القرآن الكريم، ومع مرور الوقت، والممارسة أصبحت أكثر سرعةً في القراءة، وذات صباح أيقظت ابنتها، وهي تناديها: آية…
– نعم أمي، ردّتْ البنت..
– أليس المفترض أن أقدّم امتحاناً لآخذ شهادة، ابتسمت، ضمَّت أمها بقوَّة، وهي تشعر بفرحة أمها التي أعادت إليها بعض فضل، فمثلما الأم أعطت عمرها ومالها لتعلّم ابنتها، حاولت البنت أن تردَّ لها ذلك الفضل، وأصبحت الأمُّ تعتاد القراءة كلَّ صباح مع فنجان القهوة، وصارت تقرأ في كتاب الله الكريم، وقد بدأت تشعر بجمال الكلمات، وتستفسر عن بعض المعاني التي كانت تجد فيها صعوبة في فهمها.
كانت آية سعيدة بتحقيق ما آلت على نفسها أن تفعله منذ أن كانت طالبةً على مقاعد الدراسة، لأنَّ الجزاء من نوع العمل، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
أخبار ذات صلة