الأسبوع الماضي مرّت على المنطقة والعالم مناسبتان تاريخيتان، في يومين متتالين من شهر واحد، يفصل بينهما نصف قرن، بالكمال والتمام.
في السادس من أكتوبر 1973، نشبت بين العرب وإسرائيل رابع حرب نظامية.. وفي السابع من أكتوبر 2023، نشبت حرب (غير نظامية) بين الفلسطينيين (فصائل في غزة) وإسرائيل. في كلا المواجهتين كانت المبادرة بهما عربية، وكانتا تحدياً لمن تكون الهيمنة على مقدّرات المنطقة.. وكلا الموقعتين كانتا اختباراً لإمكانات الردع لدى الطرفين، وفي كلا النِزالين، كانت لهما أصداء عالمية ترددت في أرجاء المعمورة، شرقها وغربها، شمالها وجنوبها.
هناك قواسم مشتركة، تجمع بين الحدثين، جميعها تشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط هي: أكثر بقعة عدم استقرار في العالم.. وأنها: تاريخياً وثقافياً ودينياً، من أكثر مناطق العالم توتراً، ولها قيمة جيوسياسية، في قلب العالم، قديمه وجديده، من يتحكم بها تكون له اليد الطولى، ليس فقط السيادة والهيمنة الإقليمية الكونية، بل أكثر: القول الفصل في مستقبل سلام، المنطقة والعالم. المواجهتان اللتان وقعتا في المنطقة، خلال جيل واحد من تاريخ البشرية، تتحكمان في حركتهما العنيفة، معادلة صفرية، هي أكبر من حسمها في فترة تاريخية واحدة، حتى ولو كان يفصل بينهما، نصف قرن. هي مواجهة أزلية، تستمد تاريخيتها «الدياليكتية»، من عناصر تبدو كونها عصية على الالتقاء، بعيداً عن المساومة وغير قابلة للمزايدة.
لكن، كما أن لإرادة القتال، أجندة خاصة بها، ما أن تُطفأ نارها، إلا وتشتعل، ولو بعد حين، إلا أن إرادة التوازن والاستقرار ما تلبث وأن تثبت جدارتها، أيضاً، ولو لحين. في كل الأحوال يكون السلام بعيد المنال، لا يمكن حسم إرادته دفعة واحدة.
يبدو أن أطراف الصراع في المنطقة، لا تحكمهم قيم السلام، بقدر استسلامهم لغواية الاستمرار في الاقتتال، دون التبصر في عوائد السلام وفداحة سيطرة روح الاقتتال، ومعاودة الأخير، على حساب هدُن الهدوء والاستقرار القصيرة، في عرف قوانين الطبيعة وتوازناتها.
ليس مثل الحرب الطويلة والمريرة الأخيرة، التي استمرت لعامين، ولا يظهر في الأفق القريب أن لها عمراً افتراضياً تضع أوزارها فيه، نهائياً. حربٌ استنزفت الكثير من الموارد، كما كان الكثير من البشر وقوداً لاستمرار اتقاد لهيبها، والأهم: الأضرار الجسيمة التي أصابت استقرار المنطقة، بل وحتى أمن وسلام العالم. حربٌ تميّزت بطول حركة عنفها وشموليته وبعد امتداده، وعدم اقتصار لهيبها على ساحة نزالها الضيقة. حربٌ عجزت إمكانات النظام الدولي بمؤسساته وقوانينه، حتى أن تقترب من وضعٍ حدٍّ لها. غير سابقتها (حرب 1973)، التي نجحت مؤسسات النظام الدولي، في أقل من ثلاثة أسابيع أن تضع وزرها، كمؤشر لإفراغ كلا الطرفين لما في كنانتهما من عتاد، كما لخواء كليهما مما في جعبتهما من أهداف وحلول.
حربان كانتا تختلفان في هوية أطرافهما، كما اختلفتا، في سبل وطرائق إدارتهما. كانتا تختلفان في أهداف طرفيهما. حربٌ 1973، كان كلا طرفيها يتمتعان بهوية دولية متماثلة، كونهما أعضاء في مجتمع الدول، كلٌّ منهم يتطلع لتعزيز أمن حياضه السيادي، في منطقة رغم أنها فقيرة في مواردها، إلا أنها غنية في إمكاناتها الجيوسياسية والأمنية والتاريخية.
أما الحرب الأخيرة، فإنها بين طرفين، ينتمي أحدهما لمجتمع الدول يتذرع بقيمة حقه دفاعاً عن النفس، أما الآخر وإن كان ليس من مجتمع الدول، إلا أنه يستخدم مؤسسات وقوانين وأعراف وحراك مجتمع الدول، ليصبح عضواً دولياً معترفاً به.
حربُ أكتوبر 1973، كانت بين جيشين تحكم علاقتهما الصراعية، معادلة توازن قوى حسّاس، رغم أن أحدهما قد يكون ممتلكاً لرادع غير تقليدي لم يعلن عنه. بينما الحرب الحالية، تدور بين طرفين، لا جيشين نظاميين. أحدهما يمتلك أدوات ردع فتاكة، لا تردعه عن ارتكاب جرائم حرب، تسقط به إلى درك ممارسة إبادة جماعية ضد خصمه، بينما الآخر يمتلك من الصلابة والإرادة والتصميم، على خوض حرب غير متكافئة، بصبرٍ وجلدٍ منقطع النظير. أحدهما يتمتع بدعم النظامين الإقليمي والدولي، بينما الآخر يفتقد الاثنين معاً، إلا أنه لو كان وحيداً في مواجهة مؤسسات النظام الدولي الرسمية، إلا أن الشارع، على مستوى العالم، يتعاطف معه ومع قضيته.
مهما تكن نهاية الحرب الحالية، التي لن تشبه نهاية الحروب السابقة، إلا أنها، كما كانت الحروب السابقة، خاصةً تلك الأخيرة، قبل نصف قرن، ستكون أقرب للهدنة منها، لوضع حل جذري وحاسم للصراع. كما أن الحرب الحالية، وإن وضعت أوزارها، إلا أن ذيولها الإقليمية والدولية، ربما يراها البعض أنها انتصارٌ لقيم الإنسانية وحب السلام. الفلسطينيون ستحظى قضيتهم بتأييد العالم وتعاطفه، بينما ستواجه إسرائيل وقادتها صعوبات حقيقية، في إعادة استيعاب الدولة العبرية في مجتمع الدول، كما سيواجه قادتها دعاة الحرب وروّاد العنصرية، مصاعب حقيقية وملاحقات قضائية دولية، تمنعهم من الحركة وأداء مسؤولياتهم السياسية بهدوء وثقة.
حربان في نصف قرن، قد تحددان في أي مسار سيتجه النظام الدولي، تحملان علامات استفهام حقيقية، لمصير أمن واستقرار وسلام العالم.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
Exit mobile version