في زمنٍ تتسارع فيه التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية، لم يعد الحديث عن «الهوية» ترفاً نظرياً أو مسألة فكرية جامدة، بل أصبح محوراً للتوتر، ومصدراً للتماسك، وأداة للتأطير السياسي في آنٍ واحد. ولم يعد من الممكن اختزال مفهوم الهوية في بعدٍ عرقي أو ديني أو لغوي؛ لأن الهوية السياسية في العالم المعاصر تتشكل عبر مستويات متداخلة، وتُوظّف ضمن سرديات متعارضة بين من يريد أن يصنع المستقبل، ومن يريد أن يُحاصره بالماضي.

وفي هذا السياق، تأتي منهجية Hyperpolitics كمحاولة رائدة لفهم المفاهيم السياسية عبر «مصفوفات تحليلية»، تُظهر كيف يتقاطع كل مفهوم مع غيره، وتمنحنا أدوات لتفكيك المعاني وبنائها بطريقة منظمة. ولعل مفهوم الهوية أحد أكثر المفاهيم قابليةً للاستفادة من هذه المقاربة، نظراً لطابعه المتغير، وتركيبه المعقد، ووظيفته المتعددة داخل النظام السياسي والاجتماعي.

مصفوفة الهوية: بين الإلزام والاختيار، وبين الفرد والجماعة

في تحليل الهوية عبر Hyperpolitics، يُقترح فهمها من خلال محورين:

• أفقياً: من الهوية المفروضة (كالنوع، العِرق، المذهب) إلى الهوية المختارة (كالانتماء السياسي أو الثقافي).

• عمودياً: من الهوية الفردية إلى الهوية الجمعية.

ينتج عن هذا التقاطع أربعة أنماط تحليلية:

Imposed (مفروضة) Chosen (مختارة)

Individual (فردية) هوية مفروضة على الفرد (الجنس، المذهب، النسب) هوية يختارها (كالمهنة، أو الانتماء الفكري والثقافي)

Collective (جمعية) هوية قومية/‏‏تاريخية موروثة

هوية وطنية حديثة قائمة على التوافق والمؤسسات.

هذا التصنيف يوضح لنا كيف أن الهوية ليست قالباً جاهزاً، بل عملية إنتاج اجتماعي وسياسي، تتفاوت بين من تُفرض عليه هويته، وبين من يملك حق اختيارها، وبين من يُنتجها ضمن جماعة مغلقة، أو داخل مشروع وطني واسع.

الهوية السعودية.. من التوحيد إلى التعدد المتماسك

في الحالة السعودية، تُعد الهوية الوطنية أحد أبرز المجالات التي تخضع لإعادة تشكيل ضمن رؤية 2030. فبينما بُنيت الهوية السعودية تاريخياً على دعائم دينية وقبلية ومناطقية، تعمل المملكة اليوم على بناء هوية وطنية جامعة، ترتكز على:

• الإسلام كمرجعية روحية.

• والانتماء للوطن كوحدة سياسية.

• والثقافة المتنوعة كمصدر قوة ناعمة.

• والولاء للدولة كمؤسسة حامية للتنمية والاستقرار.

إن الانتقال من هوية موروثة إلى هوية مختارة وواعية ليس أمراً بسيطاً، بل هو مشروع طويل المدى، يتطلب سياسات ثقافية، ومناهج تعليمية، وسرديات إعلامية، تزرع في المواطن شعوراً بالانتماء إلى وطن متجدد، لا مجرد انتماء إلى ماضٍ متوارث.

مفاهيم متقاطعة مع الهوية في Hyperpolitics

لا يمكن فهم الهوية في عزلة، بل يجب ربطها بمفاهيم متجاورة، منها:

• Nation (الأمة): كإطار جامع للهويات الفرعية.

• Citizenship (المواطنة): حيث تحدد الهوية الحقوق والواجبات السياسية.

• Culture (الثقافة): باعتبارها الحامل الرمزي للهوية.

• Minority/‏‏Majority (أقلية/‏‏أغلبية)، حيث تتحول الهوية إلى أداة صراع أو اعتراف.

في الختام: من سؤال «من أنا؟» إلى «كيف أكون؟»

إن التفكير بالمفاهيم -كما تقترحه Hyperpolitics- يحوّل سؤال الهوية من كونه سؤالاً وجودياً («من أنا؟») إلى كونه سؤالاً سياسياً عملياً («كيف أكون في هذا المجتمع؟»). إنه انتقال من تعريف الهوية كقدر، إلى فهمها كخيار، وكعملية مستمرة في التكوين وإعادة التكوين.

وفي زمن تتقاطع فيه قضايا الهجرة والمواطنة والتعددية الثقافية والانتماء الوطني، يصبح تحليل الهوية ضرورة سياسية وتربوية، لا مجرد مادة أكاديمية؛ فالهوية ليست ما نقوله عن أنفسنا فقط، بل ما نقبل أن نكونه سوياً.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.