هل يمكن للإنسان أن يتحرر من ماضيه، أم أن المجتمع يفرض عليه حكمه الأبدي؟.. استدعاء الأخطاء السابقة بقصد الانتقاص من الكرامة أو التشهير يمثّل إعادة إنتاج للوصم، ويحوّل الفرد إلى أسير لمرحلة زمنية مضت، بما يعيق إمكان إعادة التكيف أو تجاوز التجربة.. وبهذه الطريقة، تتحوّل الذاكرة الجماعية من مساحة للتعلم والمراجعة إلى أداة للإقصاء والعقاب المستمر، فتتلاشى إمكانية الإفادة من الخبرات السابقة لصالح المجتمع ككل.

مع ذلك؛ لا يمكن إنكار أن كشف الماضي قد يكون أحياناً ضرورة أخلاقية، خصوصاً عند التعامل مع أفعال مؤذية لم يُعترف بها أو لم يُعالَج أثرها.. في هذه الحالات، يصبح الكشف وسيلة للمساءلة العامة، وأداة لحماية الآخرين، وتعزيز وعي المجتمع بما يحد من تكرار الضرر.. غير أن القيمة الأخلاقية لهذا الكشف لا تتوقف على وقوع الحدث ذاته، بل على السياق والغاية التي يُستخدم من أجلها: هل الهدف هو تحقيق إنصاف حقيقي، أم مجرد تصفية حسابات والتشهير؟

الإنسان بطبيعته كائن متغير في وعيه وقيمه وسلوكه، لا كائناً ثابتاً في ماضيه.. فالتحول الصادق الذي يظهر في الاعتذار؛ معالجة الضرر، والالتزام المستمر بممارسات جديدة، يغيّر طبيعة الحكم الأخلاقي على الماضي.. محاكمة الفرد على أخطاء تجاوزها ولم تعد تعكس وعيه الحالي تمثل عقاباً غير متكافئ، يفتقر إلى البعد الإصلاحي، ويضيع فرصة الاستفادة من طاقاته المتجددة في خدمة المجتمع.

لذلك؛ تقوم العدالة المتوازنة على ركائز متكاملة: المساءلة التي تحفظ الحقوق وتضمن الإنصاف، والاعتراف بالتغيير الذي يتيح إعادة الإدماج.. الاقتصار على الأولى يحوّل العدالة إلى عقاب دائم، والاكتفاء بالثانية قد يفتح باب الإفلات من المسؤولية.. أما الجمع بينهما؛ فيشكل أفقاً أخلاقياً يوازن بين حماية الحقوق وإتاحة الإصلاح، ويؤكد أن الماضي لا يجب أن يكون قيوداً تمنع النمو.

ختاماً

حبس الإنسان في ماضيه يلغي قيمة النمو الأخلاقي، بينما الاعتراف بإمكانيه التحوّل يفتح الطريق أمام مجتمع أكثر عدلاً ومرونة، قادر على حماية الحقوق دون أن يغلق باب التغيير والإصلاح.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.