ابتهاجاً بقرار صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- بتأسيس مجلس الأعمال السعودي السوري، والذي لا يُقرأ كمجرد ترتيب إداري، بل كتحول في هندسة التأثير السعودي في الإقليم، فإن هذا المقال يطمح لقراءة أعمق لطبيعة هذا المجلس، لا بوصفه أداة لتنشيط التجارة، بل كأداة سيادية لإعادة تشكيل علاقة إستراتيجية.
حين تُبنى المجالس الاقتصادية المشتركة في دول المنطقة، فإنها غالباً ما تأتي كمخرجات تقنية للعلاقات السياسية، أو كاستجابة لحراك تجاري محدود. لكن المجلس السعودي السوري، الذي أُعلن عن تأسيسه، لا يُشبه ما قبله، لا من حيث التوقيت، ولا من حيث الرمزية، ولا من حيث مستوى التوجيه.
فهو ليس امتداداً لمرحلة انفتاح اقتصادي، بل تعبير عن تحول في القرار الإستراتيجي للمملكة؛ تحول يقول إن الرياض لا تنظر إلى الأسواق المجاورة كمواقع تداول، بل كمساحات نفوذ طويل الأمد تُدار عبر أدوات الاقتصاد لا بيانات السياسة.
سورية اليوم ليست أرضاً بكراً، بل ساحة أنهكتها العقوبات، أربكتها الحرب وأربكت مسارها الاقتصادي، ولكنها لم تفقد موقعها ولا عمقها التاريخي في المعادلة الإقليمية. ومن هنا، فإن دخول رأس المال السعودي من بوابة مؤسساتية واضحة، وبحزم مالية معلنة لا يمكن أن يُقرأ إلا بوصفه قراراً سيادياً بوسائل اقتصادية.
ليس من عادة القيادة السعودية أن تُعلن التزاماً بمليارات الريالات ثم تتراجع. والمملكة اليوم لا تذهب إلى سورية لتشارك في «الفرص» فقط، بل لتُعيد كتابة معادلة الاستثمار في سورية نفسها، على أسس تمكين، شراكة، ونقل نموذج ثبت جدوى تطبيقه.
الفرق الجوهري هنا أن السعودية لا تذهب لتشتري أصولاً منهارة، بل لتُقيم مشاريع تقودها، وتشرك السوريين فيها، وتُعيد تأهيل البنية التحتية بما يسمح لرجال الأعمال السوريين بأن يعودوا فاعلين لا تابعين، وشركاء لا وسطاء.
ولأن السوق لا تنهض من فراغ، فالبنية التحتية هي مفتاح الشراكة الحقيقي: الماء، الكهرباء، الطاقة المتجددة، النقل، والمنصات المالية الذكية. هذا هو العمود الفقري لأي مشروع استثماري، وهو ما نراه يتحرك في خلفية هذا المجلس.
لا أحد في الرياض يفكر اليوم بعائد قصير المدى في سورية، بل في تموضع طويل، يُبنى على نموذج الاستدامة لا الانتهاز. وإن كانت دمشق تستعيد عافيتها، فإن المجلس السعودي السوري ليس خطوة عابرة، بل آلية تأسيسية لما بعد التعافي.
إن أهم ما يمكن أن يحدث اليوم ليس فقط توقيع عقود، بل وضع نظام واضح لضمان الحقوق، تسوية المنازعات، تمكين الشراكات الحقيقية، وبناء اقتصاد ذكي يُشبه ما نجحت به السعودية في الداخل: شراكة قطاع عام/خاص تقوم على الكفاءة، لا على النفوذ.
الكرة اليوم في ملعب السوق السورية: هل تُعيد ترتيب أولوياتها لتستقبل رأس مال يريد أن يبني لا أن يُسيطر؟ وهل يتم استيعاب أن الشراكة مع السعودية ليست مغنماً ظرفياً، بل فرصة لإعادة تموضع سورية اقتصادياً في الإقليم؟
فإن فُهِم هذا المشروع على حقيقته، فإن المجلس السعودي السوري سيكون أول لبنة اقتصادية حقيقية لسورية ما بعد الحرب. لا بوصفه مجلساً تنظيمياً.. بل بوصفه قراراً سيادياً بأن يكون الاقتصاد هو لغة النفوذ الجديدة.
ولأن المجالس لا تُقاس بعدد اجتماعاتها، بل بعدد المشاريع التي خرجت من رحمها، فإن نجاح المجلس السعودي السوري لا يُقاس فقط بحجم الاستثمارات، بل بقدرته على صناعة نموذج للتشغيل المشترك، وتوليد الفرص، وتفادي الفوضى المؤسسية.
مقترحات عملية لاستثمار المجلس:
1. إنشاء مسار واضح للحوكمة القانونية للمشاريع المشتركة، مبني على الشفافية بين المستثمر السعودي والسوري، لا على التواقيع الرمزية أو التفاهمات الشفوية.
2. تأسيس جهاز تنفيذ مصغّر داخل المجلس، لإدارة الفرص ومتابعة النزاعات الإدارية والتجارية قبل أن تتحول لأعباء قضائية أو سياسية.
3. إتاحة المجال للأصوات السعودية والسورية الشابة التي أثبتت مرونتها وسط هشاشة البنى، لتكون شريك تشغيل فعلياً في المشهد الجديد، لا غطاء محلياً، بل طاقة تنفيذية حقيقية.
4. تخصيص خط تمويل سيادي بشروط مرنة لدعم مشاريع البنية التحتية في سورية، مع رقابة استثمارية سعودية تضمن استدامة العائد، لا قيود تقليدية تعيق حراك الاستثمار الذكي.
المملكة اليوم لا تدخل سورية لتلعب دور «المستثمر الخارجي»، بل لتُعيد تعريف سورية اقتصادياً ضمن رؤية إقليمية تقودها هي، لا تُفرض عليها من الخارج. وهذه ليست عودة إلى سورية فقط، بل إعادة سورية إلى الطاولة، لكن بشروط الاقتصاد، لا بخرائط النفوذ.
أخبار ذات صلة