علاقة الطيران بالحرب علاقة وثيقة، لكنها ليست علاقة طيبة. فمنذ لحظتها الأولى لم تولد الطائرة وهي تحلم بالتحليق فوق السحب أو التجوال بين القارات؛ بل وُلدت كأداة حرب، تمامًا كالمدفع والبندقية.. لم تكن تحمل الحقائب، بل القنابل، وكانت علامة تفوّق فارقة في الجيوش الحديثة.

في الحرب العالمية الأولى (1914–1918)، استخدمت الطائرات في مهام الاستطلاع، ثم تطورت لتحمل القنابل وتخوض المعارك. حينها ظهرت مقاتلات بريطانية وألمانية دشّنت أولى حروب الأجواء، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية (1939–1945) لتؤكد أن من يسيطر على الفضاء يتفوق على الأرض، وهو ما ظهر في استخدام القاذفة الأمريكية B‑29 لإسقاط القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي، وها هي طائرات B‑2 تعود هذا الأسبوع، في مشهد مشابه، لتنفيذ عملية دقيقة ضد المواقع النووية الإيرانية، وكأن التاريخ لا يكفّ عن إعادة نفسه.

بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، تغيّرت نظرة الإنسان لهذا الاختراع الجبّار، فبدأت الأفكار تتجه نحو تحويله من آلة رعب إلى أداة سلام.

تم تعديل بعض الطائرات العسكرية لاستخدامها في نقل الركاب والبضائع، كما في طائرة داكوتا DC‑3 التي دخلت عالم الطيران المدني في الأربعينات بعد أن كانت طائرة عسكرية.

خلعت الطائرة البدلة المموّهة، وارتدت زي الطاقم، وتحولت المطارات من ثكنات ومخازن بارود إلى صالات انتظار وأكشاك قهوة. وهكذا بدأت قصة الطيران المدني، الذي تطور تدريجيًا حتى أصبح اليوم أحد الأعمدة التي تقوم عليها الحياة الحديثة، ومع تطور تقنيات الملاحة الجوية وتوحيد قوانين الطيران، باتت الأجواء أكثر أمانًا، وصارت الطائرات الوسيلة المفضلة للسفر.

رغم هذا التحوّل، لا تزال الحرب خصمًا للطيران، فمع كل توتر أو نزاع، تطلّ بهيئتها البشعة؛ تُغلَق الأجواء، وتتغيّر المسارات، ويُحتجَز الركاب وراء أسوار الانتظار.

لقد وُلد الطيران في قلب المعركة، لكن قَدَره الحقيقي أن يكون جسرًا بين الأمم، لا حاجزًا بينها.

من رماد الحروب، حلّقت أعظم شركات الطيران، ومن أزيز المقاتلات انبثق حلم معانقة الغيم في رواية السلام، نجح الطيران في إعادة تعريف نفسه، ولم يعد صوت المحركات يثير الفزع، بل صار مبعث طمأنينة لكل قلب ينتظر الوصول.

البلدان التي كانت في الأمس ساحات للمعارك الجوية، أضحت اليوم مراكز لصناعة الطيران العالمي، فمدن مثل هامبورغ، تولوز، وسياتل، باتت تحتضن مصانع تنتج طائرات لا تحمل من السلاح سوى سلاح الطموح الإنساني.

ويبقى الدرس الأهم: أن الحروب، وإن كانت رحم الابتكار، فإنها تعيق الحياة. وأن الحفاظ على أجواء آمنة ومفتوحة ليس فقط ضرورة لقطاع النقل، بل هو التزام حضاري، فالطيران لم يعد رفاهية، بل حق من حقوق الإنسان في الحركة والانتقال.

اليوم، تتجدد الحاجة لتكريس الطيران المدني كرمز للسلام. فالسماء، التي تتحول أحيانًا إلى ساحات قتال، هي في الأصل فضاء وصال، وكل رحلة تقلع من مطار إلى آخر، هي خيطٌ في نسيج الحياة يرتق ما خرقته القنابل من جسد الأرض.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
Exit mobile version