في زمنٍ تتقاطع فيه الحكاية مع الخوارزمية، وتتنافس فيه الذاكرة الإنسانية مع ذاكرة الآلة، ما زالت الرواية تقف شامخة كفنٍّ قادر على التقاط نبض الإنسان وتحويله إلى سردٍ نابض بالحياة. هذا ما خلص إليه أدباء وروائيون عرب اجتمعوا في جلسة حوارية حملت عنوان «الرواية مساحة للتمرد والبحث عن المعنى»، ضمن فعاليات الدورة الـ44 من معرض الشارقة الدولي للكتاب، حيث ناقش المشاركون مستقبل الرواية في ظل التحولات الرقمية والذكاء الاصطناعي، ودور السرد في حفظ الوعي الإنساني من التآكل.
شارك في الجلسة كلٌّ من الدكتورة بديعة الهاشمي، والروائي العماني زهران القاسمي، والدكتورة ريم البسيوني، والروائي محمد سمير ندا، الذين تنوعت رؤاهم بين النقدي والفلسفي والإبداعي، واتحدت أصواتهم حول فكرةٍ جوهرية مفادها أن الرواية، مهما تبدلت الأزمنة وتقدمت الأدوات، ستبقى أوسع المساحات التي يلجأ إليها الإنسان لفهم ذاته والعالم.
وقالت الأكاديمية المتخصصة في أدب السرد الدكتورة بديعة الهاشمي، إن «الرواية الجديدة» لم تعد مجرد تصنيفٍ فني، بل أصبحت اتجاهاً جمالياً يعكس تمرد الإنسان على قوالب الحكاية التقليدية. وأضافت أن هذا اللون من السرد يعيد تشكيل العلاقة بين الكاتب والنص، ويمنح المؤلف مساحة للتجريب والانفتاح على الرمزية والأسطورة والغرائبي، مؤكدة أن الرواية كائنٌ حيّ «تتبدل ملامحها كما تتبدل الحياة نفسها، وتبقى قادرة على النموّ مهما تغيرت المناخات الثقافية».
ورأت الهاشمي أن الحديث عن مستقبل الرواية لا يمكن فصله عن النقاش الدائر حول الذكاء الاصطناعي، مشيرة إلى أن الإبداع الأصيل لا يمكن أن يُستنسخ آلياً. وقالت: «الذكاء الاصطناعي قد يُنتج نصاً محكماً، لكنه لن يكتب أبداً نصاً نابضاً بالمشاعر. فالأدب هو مرآة القلب، والآلة بلا قلب».
أما الروائي زهران القاسمي، الذي اشتهر بجعل المكان بطلاً موازياً في أعماله، فقد تحدث عن الأثر العميق للمكان في تشكيل الوعي والذاكرة داخل العمل الروائي، مؤكداً أن «القرية أو الساحل أو المدينة ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي الكائن الذي يصوغ ملامح الشخوص، ويمنحهم صوتهم الخاص». وأوضح أن الرواية بالنسبة له هي جسرٌ بين التجربة الإنسانية والخيال، وأن الكاتب، مهما حاول التجرّد، يظل يقتات من الواقع ليصنع عوالمه المتخيلة، قائلاً: «بين الحياة التي نحياها والرواية التي نكتبها خيطٌ رفيع، لكنه متين، هو ما يجعل السرد صادقاً مهما غلب عليه الخيال».
وفي حديثها عن تجربتها الروائية الممتدة منذ المراهقة، كشفت الدكتورة ريم البسيوني عن بداياتها الأولى حين كتبت رواية تاريخية وهي في الـ16 من عمرها عن فتح الأندلس، قبل أن تتجه لاحقاً إلى الواقعية لتغوص في التجربة الإنسانية اليومية. ثم عادت إلى التاريخ بروح الباحثة عن الجذور في «ثلاثية المماليك»، حيث أعادت رسم ملامح القاهرة عبر العصور، وكتبت بعد ذلك «رواية الحلواني» لتتأمل تطور الفكر الصوفي في المجتمع المصري.
وقالت البسيوني إن نجاح الرواية لا يُقاس بعدد صفحاتها ولا بحجم انتشارها، بل بقدرتها على إشعال حرارة الصدق في وجدان القارئ، مؤكدة أن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي «يقتل روح النص» ويجرّده من دفء الإنسان الذي يمنح الأدب خلوده.
بدوره، تناول الروائي محمد سمير ندا دور الكاتب بوصفه «ضمير المجتمع»، مشيراً إلى أن الرواية ليست ترفاً فنياً بل ضرورة فكرية لمساءلة الواقع. وقال: «على الكاتب أن يشخّص أمراض المجتمع لا ليبث اليأس، بل ليحفّز الوعي على المقاومة. فالسرد ليس مرآةً جامدة، بل فعل مقاومة ضد القبح».
واعتبر ندا أن العودة إلى التاريخ في بعض الأعمال الروائية ليست انقطاعاً عن الحاضر، بل وسيلة فنية للهروب من قيد اللحظة دون مغادرة أسئلتها، لأن «كل كتابة عن الماضي هي في جوهرها كتابة عن الحاضر».
وحين تطرّق إلى قضية الذكاء الاصطناعي، عبّر عن قلقه قائلاً: «من المخيف أن تُكتب رواية في دقائق بينما يحتاج الكاتب سنوات ليمنحها روحه. لقد جربت بنفسي نصوصاً وُلدت عبر الذكاء الاصطناعي، فأعجبت القراء بسطحها وجمالها اللغوي، لكنها بلا عمق، بلا جرح إنساني، بلا دم».
وفي ختام الجلسة، اتفق المشاركون على أن الرواية ستظل – رغم تسارع الزمن وتطور التقنية – المجال الأرحب للبحث عن المعنى، لأنها ابنة الإنسان لا الآلة، ولأنها الفن الوحيد الذي يحتفظ بقدرته على إعادة خلق العالم من جديد كلما ضاق الأفق.
وفي فضاء معرض الشارقة، حيث تتجاور الحروف من 118 دولة، بدا صوت الروائيين العرب متجذراً في وعي الإنسان، رافضاً أن تُختزل الحكاية في معادلة رقمية، أو أن يُختصر الوجدان في خوارزمية. فالرواية – كما أجمعوا – ليست حكاية تُروى فحسب، بل حياة تُكتَب من نبض القلب، وشغف العقل، وسؤال الوجود.
