عدّ المفكر إبراهيم البليهي إفاقة بعض الأفراد وخروجهم من الذوبان في التيار العام إفاقة فردية، إذ تستمر عقلية القطيع مهيمنة، ويستمر التيار في مجراه مهما ظهر من مفكرين ومهما بلغت قوة أفكارهم.
وقال: هكذا ظهر في إسرائيل مفكرون ضد إسرائيل، فالمؤرخون الجدد، يمثلون تياراً ناشطاً، وهم أساتذة جامعيون ومؤلفاتهم تُنشر في إسرائيل وفي كل العالم وتُقابَل بإشادات على مستوى العالم، إلا أن المفكرين الذين يقرأون لبعضهم لا يؤثرون في العقل الجمعي.
ولفت إلى استغراب البعض من قيام المفكر اليهودي إيلان بابيه بنقد إسرائيل نقداً علمياً متواصلاً في عدد من الكتب، رغم أنه يهودي ونقده العلمي أدى إلى مقاطعته من أقرب الناس إليه.
ويرى صاحب «بنية التخلف» بأن علينا أن ننتبه إلى أنه خلال التاريخ البشري كله كان الفلاسفة وكبار المفكرين يخرجون في مختلف المجتمعات ويعلنون أفكاراً تتعارض مع السائد إلا أنهم يبقون منبوذين في مجتمعاتهم فهم مغايرون تماماً للتفكير السائد، لذلك يرفضهم المجتمع فلا يأتي تأثيرهم إلا متأخراً أو لا يأتي أبداً.
وذهب إلى أن التفرُّد والانفصال عن تفكير القطيع طوَّر الحضارة، فالاستمرار على نفس النمط من التفكير يُبقي الحضارة في نفس المستوى، بل إن الحضارة ربما تنتكس وتتراجع كما حصل خلال القرون المظلمة في أوروبا، إذ حلّ الظلام الذي جمّد العقل الأوروبي 10 قرون، وحصل ذلك عقب الإشراق الفلسفي الباهر في أثينا وبعض المدن اليونانية.
وأضاف أنّ كل تقدم حضاري هو وثبةٌ تتجاوز السائد، فالنمو يتطلب كسر بعض المسلمات، كما يتطلب خلق إضافات إيجابية، بل قد يستوجب حصول تحول نوعي، أما بدون هذه الاختراقات الفردية فإن الحضارة لا تتقدم أبداً، لذلك تدوم الخلافات والصراعات بين الأمم، فالإنسان لا يستجيب إلا لما يتفق مع ما تطبع به ويدغدغ رغباته وأهواءه واحتياجاته.
وأكد أن انعتاق الحضارة من المعوقات بالغ الصعوبة، ولا تزال الإنسانية تعاني من حماقات البشر وجهلهم وغرورهم وغطرستهم، لذا ليس غريباً أن يظهر يهودي معارض للانتهاكات الفظيعة التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين، بل وأن يتفرغ لفضح مخططات التهجير والإحلال، لكن تأثير الصوت الموضوعي يبقى تأثيراً ضئيلاً، فالعموم لا يصغون لصوت العقل، ولا يلتفتون لوميض الحقيقة، وإنما يستجيبون للمحرض، ويعجبون بالمهرجين والمضللين.
وأوضح أن بعض المفكرين والأكاديميين العرب عاشوا في بلدان الغرب وعملوا أساتذة في جامعاتها واندمجوا في البيئة الثقافية إلا أنهم لم يذوبوا فيها، بل دخلوا في نقاشات حامية للدفاع عن القضايا العربية، وأسهموا في الإبداع النقدي، وصاروا معروفين بإسهاماتهم على المستوى العالمي، وبقوا معتزين بانتمائهم العربي يدافعون عن العرب ويفضحون الممارسات العدوانية، ويأتي في المقدمة إدوار سعيد، وطلال أسد؛ الذي يعمل أستاذاً في جامعة مدينة نيويورك، وله نشاط فكري واسع ومؤلفات كثيرة، تتناول الإشكالات الثقافية، وهو ابن محمد أسد صاحب كتاب «الطريق إلى مكة»، وجوزيف مسعد الذي يعمل أستاذاً بجامعة كولومبيا في نيويورك، وصدر له عددٌ من الكتب دفاعاً عن العرب وفضحاً للتبجح الغربي، وشارك في الندوات والمؤتمرات التي تناقش القضايا العربية، ومن آخر وأهم مؤلفاته كتابه الذي يحمل عنوان «اشتهاء العرب»، وهو نقضٌ للدعاوى التي تثار حول العرب بأنهم شهوانيون، ويتضمن دراسة شاملة للإبداع العربي الذي تناول هذا الجانب، وقدّم وثيقة تكشف التحيز الغربي وعدوانيته ليس فقط سياسياً وإنما على مستوى الفكر، وكشفتْ له المواجهةُ مع المغرضين أن البراهين الدامغة لا تؤدي إلى تراجعهم عن التضليل، وإنما قد يصير التصدي لهم سبباً في تأجيج العدوانية وإضافة المزيد من الوقود لإلهاب العداوة، لكنه رغم ذلك يرى أنه لا بد من التصدي لإدانة العدوان وتسجيل الحقائق.
وأضاف: رغم الشعور بضآلة التأثير على الغرب إلا أنه يعلن أنه سيواصل الكفاح من أجل فضح الزيف، إذ يختم كتابه بالقول: «لم يقتصر اهتمامي على تسجيل السجالات والتصورات الهامة بل تجاوزه إلى لفت الانتباه لأهمية تلك السجالات والتصورات لمقاومة المحاولات التي يقوم بها عدد من القوى». وكتاب «اشتهاء العرب» يستحق أن يُقرأ بعناية، فهو إضافة إلى هدفه الأساسي، فإنه يمثل مراجعة فاحصة للفكر العربي الحديث.
أخبار ذات صلة