وهنا نطرح محور قضيتنا الأسبوعية حول التراث والآثار؛ من خلال رؤية ثقافية وعلميّة، وإبداعية، مستأنسين برأي عدد من الباحثين المتخصصين، فيرى الأكاديمي الدكتور إبراهيم أبو هادي النعمي أنه حين نتجه إلى الاهتمام بالماضي؛ باعتباره مكتسباً، فإننا نعي تماما أنها «عودة» إلى الخلف في الإطار الإيجابي، إذ تعني تجذير المعرفة واصطحاب تطورها وتشكلاتها في الحقب الزمنية؛ وفق تاريخيّة الزمكان وتأثيره على المنتج الثقافي واستثمارها في الحاضر بكل حمولاته الثقافية والاجتماعية والسياسية. وعدّ ما الدولة بصدد رعايته موروثاً يجمع بين الابستمولوجيا والانطولوجيا وتجلياتهما في الآداب والفنون والطقوس الاجتماعية والتعبير عن الهويّة الثقافية المستمرة والمتغيرة والمتطورة، مؤكداً أهمية دراسة الوجود والكيانات المتعلقة بالآثار والتراث وكيفية تفسيرها في سياق الهوية والتاريخية، فالهوية تسهم في تعزيز شعور الانتماء والاعتزاز بالثقافة المحلية والقيم والتقاليد التي تشكلت عبر العصور؛ ويكون ذلك من خلال الحفاظ على التراث والآثار لضمان رفد الهوية للأجيال القادمة. وأوضح أبو هادي أننا اليوم في المملكة، وعبر برامج الرؤية الملهمة، نرى أن الاهتمام بالتراث المعرفي والمادي؛ باعتباره ذاكرة الأمة وهويتها، يحقق للمواطن السعودي تحسين جودة الحياة والتقدم نحو المستقبل بوعي وثقة المنافس، معتمداً على تاريخ عريض من الحضارات المتتابعة والثقافات المتنوعة التي تتماشى مع توجهات الدولة الحديثة وتعاطيها مع ثقافات العالم؛ كونها لاعباً رئيساً في مجالات الاقتصاد والسياسة والحضور الاجتماعي والثقافي، كل هذا يقودنا نحو بناء مستقبل مستدام مستنداً إلى الماضي، متماهياً مع الحاضر، متطلعاً للمستقبل. ولفت أبو هادي إلى أن الحفاظ على الموروث؛ سواء أكان مادياً أو معرفياً؛ واجب تجاه المجتمعات المحلية والإنسانية، ما يلزمنا بنقله بكل أمانة واحترافية واهتمام تدويناً وتوثيقاً وصيانةً وتمكيناً للبعثات المتخصصة في استكناه أسراره وإتاحة المادي منه للدرس والتنقيب والمعرفي للتدوين والتداول وإعادة انتاج كل ذلك من خلال الفنون بكل أطيافها، مضيفاً بأن المملكة من أغنى دول العالم تراثاً وموروثاً ثقافياً، ويحمل ترابها آثاراً وتاريخاً يعكس حضارات قديمة كان الحفاظ عليه واجباً وطنياً يستوجب تضافر الجهود للعناية به وتحمل مسؤوليته. وقال أبو هادي: «إن فلسفة الحفاظ على التراث تدور حول استدامته والاحتفاظ بتلك الذاكرة الجماعية التي تستعيد تجارب وتحديات المجتمعات السابقة؛ التي هي في حقيقتها جزء من وجودنا، كما أن فهمنا العميق لهذا التراث يساعدنا على تقدير تنوع الثقافات ويعزز الحوار بين الأجيال».
فيما يرى الباحث في العلوم الإنسانية عبدالهادي صالح الشهري أن كل ما هو قابل للاندثار سيندثر ما لم يتم تداركه؛ سواء أكان ذلك في التراث المادي أم غير المادي، مشيراً إلى أنه لا يمكن التعرف على تاريخ البشرية إلا من خلال ما خلفوه من آثار ملموسة أو غير ملموسة؛ واعتبارها هوية تاريخيّة تعكس قيمة الإنسان وحضوره وأمجاده على هذه الأرض.
وأوضح أن في محافظة النماص -على سبيل المثال- الكثير من التراث المادي الذي حاول فيه الأسلاف رفع الهوية الجبلية بكامل تفاصيلها التاريخية والثقافية على حد سواء، كما هو أيضاً على مستوى التراث غير المادي، إذ لا تزال العادات والتقاليد متوارثة إلى يومنا هذا، وتكشف طريقة تعايش الإنسان مع الطبيعة الجبلية التي تشير إليهم وتميزهم عن غيرهم، ولا يمكن للزائر لمحافظة النماص إلا أن يستشعر هيبة الجبال والأودية والشعاب ويشتم رائحة التاريخ وهي تخرج من بين حصونها وقلاعها الكثيرة ويبتهج من ضيافة أهلها الكرام. وأكد الشهري أننا ونحن نتجه جميعاً وفق رؤية السعودية 2030 للحفاظ على هذا الإرث الكبير؛ الذي تمتلكه المملكة في جهاتها الأربع ورفع الوعي بأهمية الحفاظ عليه وعرضه أمام السائح الذي ستدهشه ولا ريب القيمة التاريخية لهذه الأرض والممتدة منذ آلاف الأعوام إلى يومنا هذا، ما يحتّم على الجميع السعي الحثيث نحو المحافظة على كل ما يخلد تاريخ هذه الأرض وتقديم الهوية والحضارة العربية العظيمة للآخر المتشوق لمعرفة تاريخنا وفروعه المتعددة بكل اعتزاز وفخر وجلال.
الذييب: إشراك المواطن في حفظ الآثار ضرورة
فيما ذهب مستشار مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الدكتور سليمان بن عبدالرحمن الذييب، إلى أن الآثار شاهد على إنجازات أي مجتمع، ولا أبالغ إن قلتُ إن الآثار هي حامل الصبغة الوراثية التي توثق نسب المجتمع بما خلفه من إنجازات، وعلامة الهوية الوطنية، لافتاً إلى أهمية أن يولي المجتمع ليس فقط الاهتمام والرعاية اللازمتين، بل المحافظة على الآثار وجعلها أحد أسس الانطلاق إلى الأمام، موضحاً أن قيادتنا الرشيدة تبنّت -شأن مجتمعات متقدمة- المحافظة على الآثار والاستفادة منها في خططها المستقبلية الواعدة عن طريق استلهامها في قضاياها والاستفادة منها اقتصادياً واجتماعياً ووطنياً، في ظل ما تبذله الجهات المعنية في هذا الجانب ما يخلق تفاؤلاً طيباً في حاضر الوطن ومستقبله.
وأكد الذييب أن دولتنا اعتمدت خططاً للمحافظة على هذا الإرث العظيم والعمل على توظيفه سياحياً وثقافياً واقتصادياً في إطار الاستراتيجية الوطنية للثقافة ورؤية 2030م، مشيراً إلى أنه إذ أخذنا جانب المحافظة على هذه الآثار فإن أبرز ما يجب تبنيه والسعي لتنفيذه هو توثيق هذه المواقع الأثرية والتراثية، وتسجيل المهم منها لدى منظمة اليونسكو باعتباره تراثاً عالمياً، مع ترميم هذه المواقع وتهيئتها بشكل صحيح، إضافة إلى تفعيل البحث العلمي في المؤسسات العلمية المعنية في هذا الأمر، مضيفاً بأن للجانب الاقتصادي دوراً متى ما تم العمل على التهيئة الجيدة للمواقع، وتسهيل الوصول إليها وتحقيق العوامل المساعدة على زيارتها، كي يتمكن الزائر من استنطاق التاريخ من خلالها. وعدّ من الأهمية مراعاة أن تكون هذه المواقع صديقة للبيئة بإمداد هذه المواقع التراثية والأثرية بأحدث وسائل التنمية المستدامة، وحظر استخدام وسائل من شأنها الإضرار بالبيئة. والاستعاضة عنها بالوسائل الحديثة لجذب الزائر، المتمثلة في الذكاء الاصطناعي في مجال الآثار والتقنية الحديثة التي تؤدي دوراً واضحاً في الترويج وتعزيز الاهتمام بها من خلال تقنية المحتوى الرقمي وتطبيقاته المختلفة، وتطوير قدرات الكوادر البشرية الوطنية عن طريق الابتعاث والدورات والمشاركات، مع جهات عالمية ذات خبرة طويلة في هذا الجانب، ومنح هذه الكوادر ثقة تولي مهمات التعامل مع آثار هذا الوطن العريق وتراثه.
ويرى الذييب أن كل هذه الخطط والآمال لا يمكن أن تحقق هدفها المنشود دون إيمان المواطن بهذه الأهمية، فدوره هو الأساس في الحفاظ على الآثار. ودعا الذييب إلى إشراك الجهات ذات العلاقة (المواطن) في الاستفادة الاقتصادية، وتخطيط مستقبل مدينته، وقال: «دون ذلك فمهما صُرفَ وبذل فلن نلمس نتائجه التي نتوخاها».