الاحتكام إلى النص كان خياراً ورؤية بل أيدلوجيا نقدية معمول بها بين البنيوين في عصر الحداثة والتفكيكين في عصر ما بعد الحداثة في الغرب، لكن عربياً رأينا النقاد العرب منهم من انحاز إلى النص، ومنهم من وقف ضد مفهوم الاحتكام إلى النص، وبقي يؤمن بالثالوث النقدي للعمل الأدبي (المؤلف، النص، القارئ)، وفي مقدمة النقاد العرب الذين انحازوا إلى فلسفة النص الدكتور عبدالله الغذاميّ.
بين الغذامي ورولان بارث
إن كان د.عبدالله الغذامي قد لقّب رولان بارث بـ(فارس النص) وهو -بلا شك- فارس النص في العالم الأوروبيّ، فإنني أنادي بالدكتور عبدالله الغذامي بفارس النص في العالم العربيّ، فإن كان بارث قد وضع رؤية متكاملة حول فلسفة النص، ظلت وما زالت مرجعاً لجميع الدارسين لنظرية الأدب والنقد، وظل فارساً لها دون منازع، وفي هذا يقول بارث: «يكتب منطلقاً من لغته التي ورثها عن سالفيه، ومن أسلوبه وهو شبكة من الاستحواذ اللفظي، ذات سمة خاصة شبه شعورية، والكتابة أو الذوق الكتابي هي شيء يتبناه الكاتب، وهي وظيفة يمنحها الكاتب للغة، إنها ترابط من الأعراف المؤسسة، يمكن لفاعلية الكتابة أن تحدث لنفسها وجوداً في داخلها». (المصدر Culler Structuralist Poetics 13)
غير أنّ الغذامي قام بتفكيك وتشريح هذه الرؤية وربطها بالتراث النقدي العربي ربطاً مقنعاً لإعطاء الريادة في مفهوم فلسفة النص للنقاد العرب، من خلال استعراضه لمفهوم النص عند عبدالقاهر الجرجاني وحازم القرطاجني ثم ابن سينا والفارابي وابن رشد ثم عمد إلى إسقاطها عملياً على نماذج نقدية، أثبتت انحيازه إلى فلسفة النص، وبالتالي فإن مقاربة بين الناقدين أراها ضرورية بل مهمة في فهم فلسفة وجدلية النص، يعتبر رولان بارث الناقد الوحيد الذي انتقل من الحداثة حيث البنيوية إلى ما بعد الحداثة حيث موت المؤلف ولذة النص، وفي هذين الكتابين كان كل تركيزه على النص، والنص وحده، وهو بهذا أنهى رسميّا ثالوث الحداثة (المؤلف، النص، القارئ) ليكون النص وحده الفلك الذي تدور حوله النظرية النقدية الحديثة ولا شيء خارجه، وهو بذلك اتفق مع صديقه جاك دريدا -وكلاهما من نقاد مجلة تل كل التي تعنى بالنقد- حول مفهومين أراهما أخطر ما توصل إليهما نقد ما بعد الحداثة هو إزاحة المؤلف وفتح النص إلى آفاق القارئ، هذه النظرية التي تلقّفها ثم تبنّاها الغذامي، الذي نبش التراث العربي ليجد ما يوافقها عند فلاسفة العرب مثل ابن سينا والفارابي وابن رشد، ووجد مفهوم التخييل عند حازم القرطاجني والنظم عند عبدالقاهر الجرجاني؛ وهما نظريتان عربيتان تراثيتان كانتا تركزان على فلسفة النص قبل رولان بارث أو جاك دريدا، وما تلك المقاربة الرائعة التي أجراها بين مفهوم ياكوبسون في نظرية الاتصال وبين القرطاجني بذات الطرح، إلا دليل على سبق معرفي ونقدي وتحليلي يضاف إلى سجّل ناقد متفرد بطروحاته الجدلية وطريقته الرصينة في البحث.
الغذاميّ وفلسفة النص
يعتبر الدكتور عبدالله الغذامي، أكثر النقاد العرب انحيازاً إلى فلسفة النص، والمتتبع لكتبه وطروحاته النقدية، يسلّم بحقيقة مفادها أنّ الرجل يستنفر كل ما بوعيه ولا وعيه في تفسير النص، يُؤثر على نفسه الجهد ليُشبع نصوصه تأويلات وتفسيرات لم تخطر حتى في خلد المؤلف نفسه؛ لأنّه وببساطة أقصى المؤلف، وانفرد بنصه، ليعطي كلّ صورة وكل مقطع من التفسيرات ما يترك قارئه في حالة اختبار لتفسير أو تأويل ما يراه قريباً إلى وعيه، في كتابه الخطيئة والتكفير عرّف الغذامي النص بقوله: «النص هو محور الأدب الذي هو فعالية لغوية انحرفت عن مواضعات العادة والتقليد». (ينظر عبدالله الغذامي الخطيئة والتكفير)
وبتسليمه أن النص هو محور الأدب بل هو فاعلية لغوية، فعليه يجب أن تكون للنص وسيلة لفهم تحركها وهنا يحدد الغذامي هذه الوسيلة بقوله: «وخير وسيلة للنظر في حركة النص الأدبي، وسبل تحرره، هي الانطلاق من مصدره اللغوي». (ينظر عبدالله الغذامي الخطيئة والتكفير)
حيث حدد ياكوبسون ستة عناصر مهمة يكتمل بها الاتصال اللغوي كما يراها هي (المرسل، المرسلة إليه) تقابل (السياق، الرسالة، الشفرة، وسيلة اتصال) تحدث عملية الاتصال فيها عن طريق الارتداد، ارتداد الرسالة للمرسل، وقد ربطها الغذامي بشكل رائع بنظرية الاتصال اللغوي عند حازم القرطاجني إذ قال: «أشير إلى أن الناقد الفذ حازم القرطاجني قد لمّح إلى بعض عناصر الاتصال اللغوي وعلاقتها بالأدب، من قبل ياكوبسون بسبعمائة عام مات حازم 1285». (ينظر عبدالله الغذامي الخطيئة والتكفير)
وهنا يأتي تفسير الغذامي الرائع لنظرية الاتصال عند القرطاجني من خلال تحديده إلى أربعة عناصر من نظرية القرطاجني وما يقابلها من نظرية ياكوبسون «ما يرجع إلى القول نفسه، أو ما يرجع إلى القائل، أو ما يرجع إلى مقول فيه، أو ما يرجع إلى المقول فيه». (حازم القرطاجني منهاج البلغاء وسراج الأدباء)
ثم ربط نظرية التخييل عند القرطاجني بقوله: «والتخييل أن تتمثل للسامع من لفظ المخيّل أو معانيه أو أسلوبه، ونظامه، وتقوم في خياله صورة أو صورة ينفعل لتخيّلها وتصورها أو تصور شيء آخر بها انفعالاً من غير رويّة إلى جهة من الانبساط أو الانقباض». (ينظر القرطاجني منهاج البلغاء وسراج الأدباء)
تطبيق على تشريح النص عند الغذامي
لنأخذ مثلاً على الكيفية التي يتعامل بها الغذامي في تحليل نصوصه من خلال احتكامه إلى النص، وما هي إلا فلسفته الخاصة لمفهوم النص؛ في كتابه الرائع والمثير للجدل الكتابة ضد الكتابة، دعا إلى مفهوم مبتكر وغريب حول إشكالية النقد الحديث بـ«مداهمة النص وقلب موازينه» (ينظر عبدالله الغذامي الكتابة ضد الكتابة)، حيث يحيل هذا المفهوم أي المداهمة إلى مباغتة النص، فالنص الذي وضعه المؤلف حسب رؤية و موهبة صاحبه قد يعتقد انّه خلقاً كاملاً، ومفهوم الكمال هنا أيّ أنّه يقرأ بالطريقة التي أرادها له المؤلف، أمّا أن يأتي الغذامي ويداهم نصّه ويقلب موازين هذا النص لإظهار الجماليات الخفية المختفية في ثناياه، فهذا لم يكن ليخطر حتى على خلد المؤلف نفسه، وهكذا يعمل على مباغتة النص وصاحبه بأن «يكون العمق هو السطح» ينظر عبدالله الغذاميّ الكتابة ضد الكتابة، وما سعيه إلى إظهار تلك الجماليات المختفية في خلايا النص إلا لكشف المزيد من المعاني والتأويلات والسحر الموزّع في ثنايا النص، ولهذا استعار مفهوم السحر «انكشاف السحر وفضح المكتوم» (عبدالله الغذاميّ الكتابة ضد الكتابة)، وقفتُ عند تحليله لقصيدة غازي القصيبي، هذا النص الذي داهمه الغذامي بوعي خطير مدروس، لكن نرى الصدمة والدهشة التي تركها على صاحب النص نفسه، فقد استخدم مفردة المصباح التي تستخدم حسب العرف إلى الإنارة أو تشبيه الحبيب بالنور أو الضوء، وهذا ما نقله لنا التراث والعرف الشعري والنقدي السائد، لكن هذا العرف الذي داهمه الغذامي ليقلب محتوى النص، ويظهر خفاياه ويترك القارئ والمؤلف بدهشة وروعة من التحليل، فتفسير الغذامي للمصباح كان غير متوقع، حيث فسّره بشعاع الحب، بمعنى أنّ الأشعة التي يطلقها المصباح حوّلها الناقد إلى رسائل حُبٍّ، لكنّه فسّرها بشعاع حب أو نور الرجاء أو فجر الملتقى، هذا هو مفهوم مداهمة النص، وهكذا تحوّل الشعاع المرسل من المصباح إلى رسالة من حبيب إلى حبيبه، وفي هذا التخريج الغذامي لا نستطيع أن نقول إنّه شبّه المصباح بالحبيب لعدم وجود أداة تشبيه، وأقرب تخريج لها هي تورية بعيدة، استطاع الناقد وبحذاقة من توظيفها بمهارة في تحليله للبيت الشعري؛ بمعنى آخر، أي بما ليس فيه كنص من أدوات، سواء تشبيهية أو من محسنات بديعية، لكننا نرى المقاربة قد نجحت وبما لم يخطر بخلد المؤلف ولم تصل إليه قصدية المؤلف نفسه، وما انطبق على المصباح انطبق على الخاتم الذي شبّهه بالقيد وذلك لأنّه تقليد عرفي يوحي بالارتباط الرسمي الزواج مثلاً، والتخريج الثاني هو مفهوم الارتباط الدائم، فطالما وجد الخاتم في الأصبع، هذا يعني إرسال رسالة أنّ صاحبه مرتبط رسمياً، وهكذا تحوّل إلى قيد دائم، بقاؤه ببقاء هذه العلاقة الرسمية، أمّا تشبيه الخاتم بنجمة السعادة، أن يتحدث عن السعادة الزوجية أو سعادة الارتباط وهكذا هو نجمة وفيها إشارة لرومانسية أخّاذة، توحي بعلاقة حميمة، وأخيراً تشبيهه للبساط بالعشّ، وهي استعارة تدل على البساطة وأيضاً على مفهوم السكن، فالبساط هو الذي يُزّين البيت سواء عند أهل المدينة أم الحضر، وهو الذي نجلس عليه، ونأكل عليه ونفرش عليه للنوم، وكل هذا يعني دلالة واحدة وهي البيت أو عش الزوجية، هذه الانزياحات التأويلية من الصعب أن تخطر في خلد الشاعر، لأنّها إيحاءات دلالية آنية تمثلت للناقد أثناء عملية تشريحه للبيت الشعري، فإذن نحن أمام مداهمة ومباغتة حقيقية للنص، ولهذا مهّد الغذامي إلى هذه المباغتات بتعريف شولز: «النصوص تشير إلى نصوص أخرى، بمعنى انّ المتداخل نص يتسرب إلى داخل نص آخر ليجسد المدلولات سواء وعى الكاتب ذلك أم لم يع» (عبدالله الغذاميّ الكتابة ضد الكتابة)، كي يخفف الصدمة على المؤلف المقصي والقارئ المفاجأ والنص المباغت، وليترك غازي القصيبي في حالة من الذهول يتمتم بصدمة حقيقية واضحة مما قاله: «وكم كانت دهشته بالغة عندما فسّر المصباح على أنّه شعاع الحب أو نور الرجاء أو فجر الملتقى، وفسّر الخاتم على أنّه القيد أو الارتباط الدائم أو نجمة السعادة، وفسّر البساط على انّه العش أو بيت الزوجية أو الوطن» (عبد الله الغذاميّ الكتابة ضد الكتابة)، حيث حوّل الغذامي النص إلى حقول دلالية بانزياحات متولدة من النسيج الخفيّ للبنيات النصية والجزئية حيث ربطها جميعاً بانسجام أدهش صاحب النص وجعله يعتقد أن هذا ليس النص الذي كتبه، حيث قال القصيبي من باب تجريد المخاطب: «خيّل لصاحبنا أكثر من مرة وهو يقرأ الدراسة أنّ الناقد كان يتحدث عن قصيدة أخرى لشاعر آخر والسبب بسيط فالأبعاد كانت مرتسمة في مخيلة الناقد لا في سماء القصيدة ولا في ذهن كاتبها» (عبدالله الغذاميّ الكتابة ضد الكتابة)، لاحظ قوله في مخيلة الناقد لا في سماء القصيدة ولا في ذهن كاتبها، لكن هذا غير دقيق، بل هو جزء من ردّة فعل مؤلف شاعر تمتّ مباغتة نصّه من قبل ناقد حاذق تركه في حيرة وبحث عن تفسير منطقي أو على الأقل مقبول يحاول أن يخفف من دهشته، وفي النهاية هو تفسير شاعر أُخذ على حين غرّة، عن طريقة الدخول إلى نصّه بالمداهمة وليس بالاستئذان، إنّما الحقيقة التي تستنتج من هذا التأويل هي أنّ فكرة النص قادت إلى انشطار دلالي قاد إلى انزياحات متعددة ما هي إلا تأويلات مبتكرة آنيّة لا علاقة لها بخلد الناقد، هذه الانزياحات تحوّلت إلى تركيبات إيحائية، كانت منزوية في بؤر الخلايا النصية حوّلها الحفر في النص إلى مدلولات حركية، تشظّت إلى دلالات متعددة، فاجأت المؤلف والقارئ معاً، وهذه هي فلسفة النص، التي تميّزت تحليلات الغذامي النقدية بها، بل تحوّلت إلى رؤية مدرسة نقدية متفردة، هذا تماماً ما فعله مع نص غازي القصيبي، حيث نفذ إلى باطن النص؛ لسبر أغواره وإظهار جماليته التي تكتنزها خفايا هذا النص، هذه هي فلسفة النص لدى الدكتور عبدالله الغذامي.