أكد نخبة من الكتاب والخبراء والناشرين على أن سطوة التكنولوجيا لم تُقلل أو تهدد الدور المحوري والتاريخي الذي تلعبه المكتبات، لاسيما أن العديد منها تواكب التطورات الرقمية التي تحكم العصر، ولفت الخبراء إلى أن المكتبات الحالية التي تعد امتداداً لمكتبات الماضي ونقطة البدء للمستقبل الواعد، لابد لها من التوجه للجيل الشاب بما يتعدى الكتب الموجودة على الرفوف، وذلك عبر التعامل مع الذكاء الاصطناعي، وكذلك من خلال برامج من الأنشطة والفعاليات التي تحيي العلاقة معه، ومواكبة لغته والتفاعل مع اهتماماته.
وفي عصر تحكمه السرعة والتكنولوجيا، لم تعد المعرفة حبيسة رفوف المكتبات أو حكراً على الكتب الورقية، بل انتقلت إلى فضاءات رقمية تحملها شاشات الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة. ووسط هذا التحول تقف المكتبات في منطقة وسطية بين ماضٍ عريق ارتبط بالورق، ومستقبل يفرض لغة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، إذ تواجه العديد من التحديات حول الدور المتبقي لها والذي يمكنها أن تلعبه في عصر تهيمن عليه أدوات الرقمنة، وكذلك في كيفية إعادة إحياء العلاقة بينها وبين الجيل الشاب، والتفاعل مع اهتماماته ومواكبة لغته.
فهم فكر الجيل
وقال رئيس جمعية الإمارات للمكتبات والمعلومات، فهد علي المعمري، لـ«الإمارات اليوم»: «المكتبة التي نعاصرها اليوم امتداد للمكتبات التي قامت في الحضارات الإسلامية والعربية، بدءاً من مكتبة بيت الحكمة العباسية إلى اليوم، فهي المكان الحاضن للكتب والمعرفة وكذلك رواد المعرفة، وربما شهدت تطورا كبيرا في الكتاب التفاعلي سواء الصوتي أو الرقمي، ولكنها مازالت مركزاً معرفياً كبيراً».
وأضاف المعمري: «من يحدد وجهة المكتبات اليوم هو النشر، فهو الذي يحدد مستقبلها لاسيما أنه يتأثر بالذكاء الاصطناعي، والذي بدوره يعتبر ضيفاً لابد من التعاون معه، لأنه هو من يحدد المعرفة لدى من يصنع الكتاب»، ولفت إلى أن «التحديات الكبرى في عصر الذكاء الاصطناعي تواجه الكتّاب ووسائل الإعلام أكثر من المكتبات، إذ يدخل في صلب عملهما مباشرة، مشيراً الى أنه لابد من فهم فكر الجيل الشاب، وتقديم احتياجاته من كتب تفاعلية ومكتبات رقمية وأجنحة خاصة للذكاء الاصطناعي، لجذبه للمكتبات».
حراك فكري
وتحدث مدير التراخيص الإعلامية في مجلس الإمارات للإعلام، إبراهيم علي خادم، عن قيمة المكتبات في هذا العصر، قائلاً: «ينظر الناس إلى المكتبة على أنها مكان للباحثين والجادين والمنغمسين في القراءة والكتابة، والمنعزلين نوعاً ما عن الحياة، وهذا غير حقيقي، فالمكتبة عبارة عن حراك فكري وحياة ونشاط، فجميع المكتبات في العالم تتمتع بوجود أروقة خاصة للنقاشات والحوارات التي قد تكون صاخبة، فضلاً عن ردهات مخصصة للفعاليات»، وأضاف خادم «بالنظر إلى مكتبة محمد بن راشد العالمية نجد أن مكتباتها محل للنقاش الجاد، وتناغم وتوأمة الأفكار، ومكان لولادة الأفكار الجديدة»، وشدد على أن المكتبات تتمتع بأدوار متعددة منها المعرفية والبحثية، ولكنها أيضاً تقوم بأدوار ترتبط بالفعاليات، وبالتالي إثراء المكتبات بالفعاليات المدرسية. ووجود الطلاب والفئات المجتمعية المتنوعة سيسهم بلا شك في زيادة رواد المكتبات.
جيل «الريلز»
ووصف الروائي المصري، محمد سمير ندا، المكتبات بأنها الملاذ، مشيراً إلى أنه تمكن من تكوين مكتبة من خمسة آلاف كتاب، وأنه قد لا يتمكن من قراءة هذه الكتب كلها، ولكنها المكان الذي يهرب إليه من ازدحام الحياة، ورأى أن الجيل الشاب مظلوم، لأن كمية المغريات التي تقدم له مختلفة عن المغريات التي عايشتها الأجيال السابقة، مبيناً أن هذا الجيل معتاد على فكرة «الريلز» الذي يقدم قصة في 30 ثانية، وليس على أن يمسك الكتاب ويقرأ ليتتبع القصة، متأسفاً على أن المكتبة لا تتمتع بالقداسة التي تستحقها، وأشار ندا إلى أن الجيل الشاب ضحية أدوات هذا العصر، فهم أبناء الحياة التي يعيشونها بكل مفرداتها، خصوصاً أن هذا العصر تحكمه منصات وسائل التواصل والاشتراكات التلفزيونية التي لا تعد، وقد ظلم بارتباطه بالمتعة البصرية، بخلاف الجيل السابق الذي كان يخلق المتعة البصرية من الخيال، واعتبر أن الجيل الشاب قد يقلل اهتمامه بهذه الوسائل في حال لم تتطور على نحو أكبر، مبيناً انه يخسر الخبرات المضافة والثقافة والمفردات اللغوية، ويأخذ المتعة البصرية الزائلة والتي لا تعتبر مفيدة لعقله.
أهمية لا تتضاءل
وترى الأستاذة الجامعية صفاء جبران، والتي تدرس اللغة والأدب العربي في جامعة ساو باولو في البرازيل، أن أهمية المكتبات لا تتضاءل، لأنه لا شيء يضاهي الإمساك بكتاب وقراءته والعودة إلى الورق، موضحة أنها تقرأ الكتب الإلكترونية، ولكنها تستمتع بقراءة الكتب الورقية، وأشارت إلى أن طلابها وهم من جيل الشباب يستخدمون الكتب الإلكترونية، ولكنهم أيضاً يحبون الكتب الورقية ويدخلون المكتبات ويقرؤون منها، وشددت جبران على أهمية مواكبة المكتبات للتطورات التكنولوجية الجديدة، فلابد دائماً من التوجه نحو المستقبل من دون التغافل عن نقطة البدء، معتبرة أن المكتبة ليست مكاناً للكتب فقط، إذ يتوجب عليها أن تقدم العديد من الأنشطة والفعاليات التي تجذب القارئ لزيارتها باستمرار.
ذائقة مختلفة
أكدت مؤسسة «بوكس إيجينت» في فرنسا، ميلينا أشوني، أنه لا يمكن إلغاء أهمية المكتبات، ولاسيما للجيل الجديد والأطفال على وجه الخصوص، فبناء العلاقة مع المكتبة منذ الصغر سيقود بلا شك الى خلق ذائقة مختلفة، واكتشاف الكثير من القصص من حول العالم، واعتبرت أن المكتبات تتوجه اليوم إلى الاستعانة بالكثير من أدوات التكنولوجية الحديثة، ولكن ذلك يحدث بخطوات هادئة، فهي مرحلة تتطلب التريث، لاسيما أن التقنيات الحديثة تأخذ مكانها في صناعة النشر، ونوهت أشوني بأن جذب الفئات العمرية الصغيرة إلى المكتبات قد يعتمد على ظروف الدول، ويختلف من دولة لأخرى، فهناك دول تتمتع بوجود بنى تحتية خاصة بالمكتبات، وكذلك بوجود ثقافة ارتيادها، بينما تعاني دول أخرى من غياب هذا الأمر، وأكدت أنه على المكتبات أن تكون أكثر انفتاحاً على العمل مع الجهات الناشرة على نحو آخر، لاسيما أنه لا يمكن الحديث عن اختفاء للكتاب الورقي الذي يحمل متعة خاصة بالقراءة.
أهمية متجددة
وأشارت مؤسسة وكالة «رُلى الأدبية»، رُلى البنا، إلى أن أهمية المكتبات تتجدد من عصر إلى آخر، مشيرة إلى وجود سؤال يتجدد دائماً حول مدى تراجع القراءة وسوق النشر، وإن كان هناك من مرتادين للمكتبات، مشددة على أن الاعتقاد بأن دور المكتبات يتراجع في ظل التواجد في مجتمع استهلاكي كبير ومتسارع ليس واقعياً، واعتبرت البنا أن مكتبة محمد بن راشد تمثل نموذجاً متطوراً على مستوى العالم، لاسيما أنها متجددة بالفعاليات والنشاطات التي تقدمها، فهي تقدم كل ما يرتبط بعالم الكتاب، ورأت أن هناك قراء شباباً ومن مختلف الفئات العمرية، وهناك كتاب أيضاً يخاطبون الفئات العمرية المختلفة، فضلاً عن وجود تجديد في مجالات ترتبط بالكتابة وصناعة النشر، واعتبرت ان تنظيم الفعاليات المرتبطة باهتمامات فئة الشباب هو السبيل لجذب هذه الفئة، خصوصاً أن لديهم اهتمامات مختلفة تواكب لغة عصرهم.
• المكتبات تقف في منطقة وسطية بين ماضٍ عريق ارتبط بالورق، ومستقبل يفرض لغة الذكاء الاصطناعي.
