لا تقاس المساحات بالنسبة للطفل الإماراتي، مصلح سعيد هداد العرياني، بالأمتار بل بالشغف وحب الابتكار والإبداع، فخلف أركان صغيرة مخصصة لأغراض الزراعة ومجموعة من الأحواض المرتبة بعناية، يجلس مصلح (تسعة أعوام) بين شتلاته ونباتاته المزهرة كخبير زراعي متمرس، نجح بأنامله الصغيرة في تحويل منزله إلى «مختبر أخضر»، وزرع 15 نوعاً من الخضراوات في مساحة محدودة، من دون مبيدات أو أسمدة كيميائية، في الوقت الذي لم تقف تجربته عند حدود الحديقة، بل امتدت إلى مدرسته التي قاد فيها مصلح فريقاً زراعياً صغيراً وقدم ورشاً عملية لزملائه في الزراعة والتخطيط الموسمي، إلى جانب ذلك دخل بعفويته المطبخ ليحضر ويبتكر من ثمار جهده مشروعاً بيئياً تراثياً نال بفضله جائزة على مستوى الدولة، راسماً مساراً استثنائياً لطفولته المتقدة بالأفكار المبدعة والخلاقة وعلاقته الوثيقة بالأرض والبيئة التي أثمرت وعياً ومسؤولية وحلماً يكبر يوماً بعد يوم.
بداية القصة
في مستهل لقائها مع «الإمارات اليوم»، توقفت والدة مصلح عند بداية قصته مع عالم الزراعة، التي وصفتها بالفوضى الأقرب إلى عبث الأطفال قائلة: «عندما كان مصلح في عُمر الثالثة أو الرابعة، كان يحرص كلما رأى نبتة على اقتلاعها من بيئتها ووضعها في عبوة مياه وجلبها إلى غرفته الصغيرة، وفيما لم تنجح محاولات المنع قررت أنا ووالده تغيير خطة وأسلوب المواجهة بالاحتواء، وتخصيص مساحة صغيرة يمارس فيها هوايته في المجال، وقتها فقط صنع ابني الفرق».
وتابعت: «أتذكر جيداً أولى تجاربه مع العدس التي نجح فيها باقتدار وبات يجوب البيت فرحاً، مراقباً مراحل نموه، ومحاكياً الأوراق الغضة وطارحاً أسئلة لم تخطر على بال أحد منا».
ورغم أن والدة مصلح لم تتوقع له الاستمرار في هذه الهواية الصغيرة، إلا أنه بادر إلى طلب شتلات جديدة، وبدأ يهتم بتفاصيل التربة وأساليب الري وطور النمو، واصفة هذه المرحلة بالقول: «في عمر الخامسة خصصت له مساحة في ملحق المنزل، بدأ من خلالها في زراعة الفليفلة الخضراء والطماطم والجرجير والبطاطا، وحتى الزهرة، من دون تدخل من أحد، باستثناء المساعدة في تأمين التراب النظيف، ونجح وقتها في زراعة 15 نوعاً مختلفاً من الخضراوات، كما زرع بعد زيارته لمعرض التمور في العين والتشاور مع مزارعين ومختصين نخلات، فيما دأب باستمرار عبر الاطلاع ومتابعة مقاطع الفيديو المتوافرة على الإنترنت، على البحث عن طرق الزراعة العضوية التي نفذها في رقعة أرضه الصغيرة دون أي مبيد أو سماد كيميائي، بل بالاعتماد على مخلفات القهوة والشاي والخضار المطحونة التي استخدمها كأسمدة طبيعية».
خيرات للأهل والجيران
رغم ضيق المساحة إلا أن مصلح نجح في هذه المرحلة المبكرة من العمر من الاستفادة من خيرات أرضه، الأمر الذي دفع عائلته إلى التوقف عن شراء الخضراوات الورقية من السوق، وتوزيع ما تزرعه يداه الصغيرتان على الأهل والجيران، قائلة: «لا يقوم مصلح بالزراعة فحسب، بل يمتلك مهارة التخطيط وتوزيع المساحة وتجديدها مع تغير المواسم، حيث برع في زراعة البطيخ صيفاً، وزاوج بين الفليفلة والطماطم في الشتاء، وكلما لاحظ ضعفاً في محصوله الصغير سعى لتحسين التربة أو طريقة الري لرفع إنتاجية الأرض، ومع اشتداد حرارة الصيف، وجد أن بعض محاصيله تتأثر، فانتقل إلى تجربة الزراعة الداخلية، مستخدماً البذور السريعة مثل العدس والحلبة وحب الرشاد والماش، مبادراً باختبار وتجربة تخمير البراعم العضوية بطرق طبيعية، وإضافة الكركم والحبة السوداء والأعشاب وزيت الزيتون لحفظ القيمة الغذائية للمكونات، لينجح في نهاية المطاف في الحفاظ عليها لمدة تتجاوز ثلاثة أشهر».
«قائد أخضر»
وتوقفت والدة المزارع الإماراتي الصغير عند تجربة اجتماعية خاضها في مدرسته، بعد ملاحظة غياب المساحات الخضراء منها قائلة: «بعد تشجيعي بادر مصلح بطرح الموضوع على مديرة المدرسة التي تجاوبت معه وأرسلت في طلب خبير زراعي من بلدية العين، موفرة له كل الوسائل لتشكيل فريق زراعي صغير من زملائه»، وتابعت: «كان في الصف الثاني حين بدأ مشروع الزراعة المدرسي، ليصبح اليوم وهو في الصف الرابع قائد فريق، ويكرم بشهادة قائد فريق المدرسة الزراعي، فيما نجح في تقديم ورش عملية لتلاميذ الحضانة والمراحل الابتدائية الأولى».
الحلم يبدأ ببذرة
وأكدت والدة مصلح العرياني أن الإبداع يحضر بأشكال متعددة في بيت العائلة، فشقيقته الصغرى رسامة، والأخرى كاتبة أصدرت ثلاث قصص، أما مصلح «فيحلم بأن يكون سفيراً للإمارات في المملكة العربية السعودية، أو طياراً، لكنه يعلم في داخله أن الزراعة سترافقه دائماً، لأن هذا الشغف كبر معه، ولن يتوقف عند حد معين، كما أتمنى أن يتحول شغفه إلى مشروع ناجح، فهو اليوم لا يزرع فحسب، بل يعيد تشكيل علاقة الطفل بالأرض، ويعلمنا نحن الكبار أن الحلم يبدأ ببذرة».
مشروع
لا يكتفي مصلح بالزراعة، فهو رائد أعمال صغير فاز في الصف الأول بالمركز الأول على مستوى الدولة في مهرجان العلوم والتكنولوجيا، عن مشروع تراثي حمل عنوان «اصنع من الماضي»، الذي أعاد من خلاله توظيف قماش السدو لتجميل الدفاتر والحقائب والحصالات وإطارات الصور، بطرق وأساليب صديقة للبيئة، فيما أتاح له مشروع الرخصة التجارية، التي حصل عليها، بيع منتجاته في المعارض، وحتى عبر الفضاء الرقمي، وصولاً لآخر معرض زراعي باع فيه كامل منتجاته.
طباخ ماهر
لم تنتهِ علاقة مصلح بالزراعة عند حدود الحقل، بل انتقل بعفوية إلى المطبخ، فانخرط يجرب وصفات من محصوله، مثل صالونة القرع والبطاطا المشوية، وأطباق خفيفة من الزهرة والبراعم، كما نصب خيمة صغيرة للاحتماء من الشمس، وأخذ يحضر الشاي، ويدعو جدته أحياناً للجلوس معه في الحديقة، وقالت والدته: «حين تغيب شمس الظهيرة نبحث عنه، فنكتشف أنه جالس هناك، يراقب نمو نبتاته، ويحتسي الشاي، ويسقي الأرض بصمت».
والدة مصلح:
. أتذكر جيداً أولى تجاربه مع زراعة العدس، التي نجح فيها وبات يجوب البيت فرحاً، مراقباً مراحل نموه، ومحاكياً الأوراق الغضة، وطارحاً أسئلة لم تخطر على بال أحد.