يذهلك البعض بسطحية في التفكير وأيضاً برؤية مجافية للواقع، والذي يؤلم أن هؤلاء البعض هم ممن يفترض فيهم الفهم والمعرفة والعلم وسعة الاطلاع، تتهم معظم دولنا بأنها ماضوية بمعنى أنها تهتم بالماضي على حساب المستقبل، بمعنى قد يكون أدق اهتمامنا بالتراث سينسي النظر للمستقبل، وغني عن القول أن مثل هذه الكلمات فيها عمومية مقيتة بعيدة عن المنهج العلمي والنقد وطرقه وأساليبه ووظائفه المختلفة، إن أي أمة من أمم الأرض عندما تولي الماضي بكافة تفاصيله العناية والاهتمام هي في الواقع تبني للمستقبل وتنظر بجدية لهذا المستقبل، إن أي محاولة لفصل المنجزات الإنسانية الماضية والتي تمت منذ عقود أو حتى قرون وإلغائها هي جناية تامة وجريمة لا تغتفر بحق البشرية بأسرها.
لنستحضر قيمنا القديمة التي توارثناها عن الآباء والأجداد، تلك القيم التي تعلمنا الكرم والتسامح والضيافة والعدالة، هل نلغيها ولا نعلمها لأطفالنا ونكتفي فقط بتعليمهم القوانين الحديثة فقط!.. ما هي المشكلة لو تغذى الجيل الجديد على قيم الجمال والألفة ثم ألصق بها أنظمة المجتمع المدني الحديث؟ ما هي المعضلة أو العقبة؟ ورغم هذا فإن الماضي ليس في العادات والتقاليد وحسب بل هو ملازم لنا في جوهر الأشياء التي هي اليوم ماثلة لنا، بمعنى استدعاء الماضي في كثير من الأحيان لعلاج إخفاقات الحاضر، بمعنى التزود بخبرات وتجارب ممن سبقونا قد تختصر علينا سنوات من أعمارنا، فلا داعي لتكرار الأخطاء وإنما الاستفادة ممن سبق وجرّب وأخذ العبرة منهم.
ستجد مثل هذا الملمح في كل مخترع وفي كل مبتكر، وخاصة تلك المبتكرات التي أثرت على الإنسانية ونقلتها من حياة لحياة أخرى، مثل صناعة الطائرة والسيارة والقطار والسفن، يعتقد البعض أنها جاءت وفق ما هي عليه اليوم ولا يعلم أن هناك مئات من التجارب والإخفاقات والفشل بل والموت بسبب حوادث مؤلمة ومؤسفة، هذا الإرث الإنساني جميعه لو لم يتم استحضاره ودراسته والتعمق فيه حتى في مثل هذه المخترعات والصناعات لكانت البشرية حتى اليوم تجرب الطائرة الورقية وسعيدة بالسفينة البخارية. والذي أريد الوصول له أن المخترعات لم تتم وتهبط علينا فجأة بل هي تراكمات لسنوات وعقود من العمل والتطوير التصق خلالها الماضي بالمستقبل، على سبيل المثال اختراع الآلة الكاتبة، هذا الاختراع الذي غيّر وجه الكتابة الإنسانية تماماً، وها نحن اليوم نكتب على الكمبيوتر وعلى أجهزتنا الذكية، كل هذا يعود الفضل فيه لمن؟ الفضل للماضي – نعم الماضي – وتحديداً لعام 1714م عندما حصل المخترع الانجليزي هنري ميل على براءة اختراع لهذه الآلة.
ولكم أن تعلموا أن الناس في ذلك الجيل رفضوا هذا المخترع تماماً ولكن بعد مرور قرن من الزمان وتحديداً في عام 1820م قام المخترع الألماني كارل درايس، بالعمل على تصميم الآلة الكاتبة وأحدث تطويرات فيها وقام ببناء الفكرة على من سبقه بقرن من الزمان.. وبعد هذا التاريخ بنحو تسعة أعوام وتحديداً في عام 1829 قام مخترع أمريكي اسمه وليام اوستن بيرت، بإنجاز آلة كتابية أكثر تطور، ولكن بعد نحو أربعة عقود تقريباً في عام 1867 قام مخترع أمريكي آخر هو كريستوفر لاثام شولز، بإدخال تعديلات كثيرة على الآلة الكاتبة فوضع اسطوانة مطاطية والتي يلف الورق عليها، فكانت ثورة هائلة في العالم في مجال الكتابة الآلية.
ولم يأتِ عام 1873م إلا وباتت الآلة الكاتبة متوفرة في المكاتب والمرافق التجارية وبات عدد من المؤلفين يستخدمونها، وكان الكاتب الأمريكي مارك توين هو أول من كتب عملاً روائياً في العالم على الآلة الكاتبة وهو روايته “مغامرات توم سوير”.
والذي أريد قوله من خلال هذا السرد التاريخي هو إبراز أثر الماضي والمنجزات الماضية سواء في المبتكرات أو غيرها من العادات الإنسانية.. نحن قلوبنا مع الماضي وعقولنا نحو المستقبل.