من خلال سينوغرافيا مثقلة بالركام والأحجار، يفتح عرض «علبة كبريت» الذي قدمه مسرح العين، واختتمت به عروض مهرجان دبي لمسرح الشباب، نافذة على واقع مرير ينهض من قلب الفوضى والنفايات. المشهد الأول وحده كفيل بأن يجعل المشاهد يدرك أنه ليس أمام خشبة مسرح تقليدية، بل أمام مساحة مفتوحة على ظلال البشر وبقاياهم، واحتمالات التأويل المتعددة، إذ تتحول القمامة إلى لغة مركبة، ومكب النفايات يصبح عالماً قائماً على كثير من المعاناة والظلم والسيطرة.

تتساقط أكياس النفايات على الخشبة، بينما يلعب الممثلون دور الجرذان ويقلدون أصواتهم، لندخل مع هذا المشهد من نص المؤلف محمد صالح إلى الاستعارات والإسقاطات المحملة بالرموز. النص وإن بدا للوهلة الأولى بسيطاً في ظاهره، إلا أنه يفتح بوابة لعالم أعمق، تتجاور فيها الهشاشة مع القسوة، وتتكاثر فيه الدلالات والإيحاءات، فالجرذان هنا ليست مجرد كائنات تبحث عن رزقها وسط نفايات العالم، بل كائنات تصرخ من القهر، وتعيش صمت المهمشين، في عالم لا يعير وزناً لوجودها وصراخها.

تبدأ حبكة الأحداث بالتصاعد مع الشخصيات التي تنكشف، بدءاً من علبة الكبريت التي تشعل شرارة الحكاية، وتتحدث عن قدرتها على إشعال الحريق، وصولاً إلى جامعي القمامة الذين ندخل معهم إلى عالم مثقل بالتعب. هؤلاء العاملون ليسوا في آخر السلم الاجتماعي فحسب، بل يحاول النص أن يبرز من خلالهم الاستغلال الذي يتعرضون له من قبل الذي يتربع على عرش القمامة ويؤسس قوته على مجهودهم، دون أن يكتفي بذلك أو يخفف وطأته، بل يتعمد توريث ابنه هذا المنصب، ليصوب النص سهامه على تدوير القمع، وأشكال الاستغلال، والهيمنة، وكيف تعيد الظلمة تشكيل نفسها.

السينوغرافيا أشبه بتضاريس حجرية متكدسة، مصفوفة ومتقاربة، يعاد تشكيلها خلال المشاهد، فتبدو كما لو أنها خراب يُصنع من رحم الخراب، وتتناثر بينها أكياس القمامة التي تتحول إلى رمز بصري للثقل الاجتماعي الملقى على الشخصيات. يبرع مخرج العرض مازن الزدجالي في نسج مشاهد صغيرة بحجم الهامش ضمن العمل، لكنها تحمل دلالات قوية، ومنها المشهد الذي يتجمع فيه جامعو القمامة على فحص حمل وجدوه في النفايات، فيصنعون من هذه الإشارة البيولوجية حكاية كاملة عن امرأة مجهولة، بينما في مشهد آخر يلتقطون بقايا قالب حلوى للاحتفال بذكرى زواج، فيحولون القمامة إلى مرايا لحياة لا يعيشونها، وذكريات لا يمتلكونها، وكأنهم يقولون: نحن نعيش من بقايا الآخرين، ولنا الحق في الحلم أو التأويل، وأن تكون لنا قصة، حتى لو خرجت من كيس القمامة.

الرؤية الإخراجية لم تتوقف عند حدود الصورة، بل عملت على إعادة تدوير الصوت، إذ شمل العمل الكثير من المقاطع التي عزف فيها الممثلون على آلات مصنوعة من بقايا بلاستيكية، تصدر أصواتاً موسيقية، وإيقاعات تحرك المشاهد. الموسيقى تتولد هنا من البقايا ومن الفائض المنسي، ومن الأشياء التي لم يعد أحد يلتفت إليها، فالضوضاء باتت موسيقى، والفوضى إيقاع، للتأكيد على انتزاع الحياة من قلب العدم.

في الختام تنهال أكياس القمامة من الأعلى إلى المسرح، لنشعر معها كأن سقف العالم ينهار، ليسقط الضحية والجلاد، المتسلق والمتسلق عليه في حفنة واحدة. يشعل العرض عود ثقاب في قلب الظلمة، ليؤكد أن للجرذان صوتاً، وأن الطغيان يورّث من جيل لجيل، بينما يبقى المقموعون يبحثون عن مساحة لالتقاط الأنفاس بين أكياس تلقى فوق رؤوسهم كل يوم.

جمع العمل في التمثيل سيف اللمكي، وهزاع المقبالي، وأحمد مستهيل، ومؤيد الشكيلي، ومحمد الحبسي. أما الإخراج فكان بتوقيع مازن الزدجالي الذي وقف على خشبة المهرجان في دوراته السابقة ممثلاً. وتحدث الزدجالي لـ«الإمارات اليوم» عن هذا العمل، قائلاً: «حاولت أن أقدم العمل وفق قدراتي، لاسيما أنها تجربتي الإخراجية الأولى، وقد سعيت إلى إيصال صوت الجرذان من خلال العمل». وأضاف: «حاولت التصويب على الصراع الموجود في العالم على اختلاف الطبقات الاجتماعية، فالعمل يشبه الحياة وما تحمله من معاناة، وقد حمل العرض الكثير من التحديات، خصوصاً أن هناك الكثير من الشخصيات على الخشبة». وشدد على أنه تعمد أن يصنع كل السينوغرافيا من النفايات، لتقديم رؤية متماسكة للعمل.

وأكد الممثل أحمد مستهيل، الذي لعب دور رئيس جامعي القمامة، أن العرض تطلب الكثير من الجهد، وقد تميز بكون جميع العاملين فيه، وضعوا طاقة مميزة بالعمل. ونوه بأن الدور الذي لعبه تطلب طاقة بدنية عالية وحركة كثيرة، وقال: «خلال التحضيرات للعرض خسرت أكثر من 30 كيلوغراماً من وزني، بسبب البروفات، نظراً لما تطلبه الدور من حركة قوية وصعود على الأحجار».


تجديد في العود

قدم عازف العود السوري حسين البيرق، العديد من الفقرات الموسيقية طوال فترة مهرجان موسيقى الشباب الذي ينظم تحت مظلة مهرجان الفنون الأدائية الشبابية في دبي، وتحدث عن مشاركته لـ«الإمارات اليوم»، وقال: «أعمل بجهد على أن تصل الفكرة التي أسعى إلى تقديمها للجمهور، لاسيما لجهة التجديد في آلة العود، فالجيل الشاب لابد من عمله على تغيير الصورة النمطية للعود، وتقديمها في قالب معاصر، فهي آلة شاملة وقادرة على أن تعزف مختلف الأنماط الموسيقية». وأكد البيرق أنه يعزف مختلف أنواع الموسيقى على هذه الآلة، كي لا تبقى في القالب التراثي، فهي آلة تقبل التجديد، موضحاً أنه يشارك للسنة الثالثة في مهرجان الموسيقى، وأثنى على تنظيمه والتجديد فيه عاماً بعد الآخر، مؤكداً أن المهرجان قدم له الكثير من الفائدة في مجال الموسيقى.

شاركها.
Exit mobile version