ملأ صوت أغنية يرددها فتى أرجاء خيمة في مدينة غزة، مع ألحان هادئة يعزفها المغنون المساعدون، لتتسلل الموسيقى الناعمة لشوارع يسودها إيقاع القنابل والرصاص والقتل.
كان عدد من الطلاب صغار السن يحضرون درساً يقدمه مدرسون من معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، الذين واصلوا دروسهم في مخيمات النزوح والمباني المدمرة حتى بعد أن أجبرهم القصف الإسرائيلي على التخلي عن المبنى الرئيس للمعهد في المدينة.
وتقول ريفان القصاص (15 عاماً)، التي بدأت تعلم العزف على العود في التاسعة من عمرها: «عندما أعزف أشعر وكأنني أحلق بعيداً»، وأضافت «الموسيقى تمنحني الأمل وتهدئ مخاوفي».
وتحدثت القصاص، خلال حصة دراسية في نهاية الأسبوع بكلية غزة، وهي مدرسة في المدينة تعرضت لقصف عنيف، عن أملها في أن تعزف في الخارج يوماً ما.
تأسس معهد الموسيقى في الضفة الغربية وكان بمثابة شريان حياة ثقافي لغزة منذ أن افتتح فرعاً هناك قبل 13 عاماً، حيث كان يدرّس الموسيقى الكلاسيكية إلى جانب الأنواع الشعبية، حتى أطلقت إسرائيل حربها على القطاع.
وخلال درس الأسبوع الماضي، تجمع أكثر من 10 طلاب تحت خيمة بلاستيكية للتدرب على الآلات الموسيقية المحفوظة بعناية لحمايتها من أضرار الحرب، وشاركوا جميعاً في العزف والغناء.
وغنى فتى «لن تذبل فينا ورقة تين»، وهي جملة من أغنية تحظى بشعبية كبيرة وترثي خسائر الفلسطينيين عبر الأجيال من النزوح، منذ قيام إسرائيل عام 1948.
وكانت هناك ثلاث طالبات يتدربن على أغنية «جرين سليفز» «الأكمام الخضراء» على الغيتار أمام الخيمة، بينما كانت مجموعة أخرى من الفتيان يعزفون إيقاعات على طبول يدوية شرق أوسطية.
في أوائل العام الماضي، كان أحمد أبوعمشة، مدرس الغيتار والكمان، صاحب اللحية الكبيرة والابتسامة العريضة، من أوائل المعلمين والطلاب الذين بدأوا تقديم الدروس مرة أخرى بعدما فرقتهم الدروب.
وكان يعزف على الغيتار في المساء بين خيام النازحين في جنوب غزة، حيث اضطر السواد الأعظم من بين إجمالي السكان البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة إلى النزوح بسبب أوامر الإخلاء الإسرائيلية والقصف.
وبعد بدء وقف لإطلاق النار في يناير، كان أبوعمشة (43 عاماً) من بين عشرات الآلاف من الأشخاص الذين انتقلوا شمالاً من جديد إلى مدينة غزة، التي دمر القصف الإسرائيلي معظم أنحائها.
وعلى مدى الأشهر الستة الماضية، ظل يعيش ويعمل في المنطقة المركزية للمدينة، برفقة زملائه الذين يدرّسون العزف على العود والغيتار والطبول اليدوية والناي للطلاب، الذين يستطيعون الوصول إليهم في الخيام أو المباني المدمرة في كلية غزة، كما يتوجهون إلى رياض الأطفال لتقديم جلسات للصغار.
ووفقاً لمعهد الموسيقي فإن المعلمين يقدمون أيضاً دروساً في جنوب ووسط غزة، حيث قام 12 موسيقياً وثلاثة مدرسي غناء بالتدريس لما يقارب 600 طالب في شتى أنحاء القطاع في يونيو.
وفي إحدى الغرف المتبقية في الطابق العلوي بكلية غزة، حيث الجدران المملوءة بآثار الشظايا والنوافذ المحطمة، يحضر ثلاث فتيات وفتى درساً للعزف على الغيتار.
وقال معلمهم محمد أبومهدي (32 عاماً)، إنه يعتقد أن الموسيقى يمكن أن تساعد في شفاء سكان غزة نفسياً من آلام القصف والفقد ونقص الإمدادات.
ويوضح: «ما أفعله هنا هو إسعاد الأطفال من خلال الموسيقى، لأنها واحدة من أفضل الطرق للتعبير عن المشاعر».
وقالت إليزابيث كومز، التي تدير برنامج العلاج بالموسيقى في جامعة جنوب ويلز البريطانية وأجرت أبحاثاً مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، إن المشروع يمكن أن يساعد الشبان على التعامل مع الصدمات والتوتر وتعزيز شعورهم بالانتماء.
وأضافت: «بالنسبة للأطفال الذين تعرضوا لصدمات نفسية شديدة أو يعيشون في مناطق صراعات، فإن مواصفات الموسيقى نفسها يمكن أن تساعد الناس وتدعمهم حقاً».
وقال مدرس العود، إسماعيل داود (45 عاماً)، إن الحرب سلبت الناس إبداعهم وخيالهم، واختصرت حياتهم في تأمين أساسيات الحياة كالطعام والماء، وتمثل العودة إلى الفن هروباً وتذكيراً بالإنسانية الأسمى.
وأضاف داود: «الآلة الموسيقية تمثل روح العازف، تمثل رفيقه، كيانه، وصديقه.. الموسيقى بصيص أمل يتمسك به جميع أطفالنا وشعبنا في الظلام».