رغم أن الملل غالبًا ما يُنظر إليه كحالة سلبية ومزعجة، إلا أن الأبحاث تشير إلى أنه قد يحمل فوائد خفية في بيئة حياتية مليئة بالمحفزات والانشغال المستمر. ويرى خبراء وعلماء أستراليون من جامعة “سن شيان كوست” بأن الملل ليس مجرد شعور بالفراغ أو الانفصال عن الواقع، بل هو إشارة دماغية معقدة تعكس تراجع الاهتمام وغياب التحفيز الذهني، وتُفعّل خلاله شبكات دماغية محددة تتحول بنا من التركيز الخارجي إلى التأمل الذاتي.

ويُعرّف الملل عمومًا بأنه صعوبة في الحفاظ على الانتباه أو الاهتمام بنشاط حالي، ويُنظر إليه عادةً على أنه حالة سلبية يجب أن نحاول تجنبها أو منع أنفسنا من تجربتها.

ولذلك عند الشعور بالملل، تنخفض أنشطة شبكات الانتباه والتنفيذ في الدماغ، في حين تنشط شبكة الوضع الافتراضي المسؤولة عن التفكير الداخلي والتأمل. يُظهر هذا التحول كيف يستخدم الدماغ الملل كوسيلة لإعادة التوازن وإعادة توجيه الطاقة الذهنية نحو الداخل. تُشارك في هذه العملية المناطق الدماغية التي تلتقط الإشارات الداخلية، واللوزة الدماغية، التي تعالج العواطف السلبية وتدفعنا للبحث عن أنشطة أكثر إرضاءً، والقشرة الجبهية التي تُسهِم في اتخاذ القرار وتحديد التوجهات البديلة.

في المقابل، يُمثل نمط الحياة الحديث، القائم على السرعة والانشغال الدائم، تحديًا للجهاز العصبي. فالتحفيز المستمر والانتقال المتكرر بين المهام يؤديان إلى استنزاف الجهاز العصبي الودي، المسؤول عن الاستجابة للتوتر، مما يزيد من خطر القلق واضطرابات المزاج نتيجة لحالة “اليقظة المفرطة” المزمنة. في هذا السياق، يصبح الملل أداة طبيعية لاستعادة التوازن العصبي وتهدئة الجهاز العصبي المنهك.

وفي جرعات معتدلة، يقول موقع “ساينس ديلي” الذي نشر البحث أن الملل يوفّر فرصًا لتعزيز الإبداع، وتنمية الاستقلالية الفكرية، ودعم التنظيم العاطفي، وكسر الاعتماد على التحفيز الخارجي المستمر، خاصة المرتبط بالإفراط في استخدام الأجهزة.

ولذا يمكن القول أن الإذن لأنفسنا بالملل يُعيد ربطنا بذواتنا، ويخلق مساحة ذهنية فارغة تُتيح التفكير العميق وتنظيم المشاعر.

في زمن تزداد فيه مستويات القلق عالميًا، لا سيما بين الشباب، يصبح التوقف والفراغ لحظة ضرورية لإعادة الشحن الذهني والعصبي. إن احتضان لحظات الملل ليس ترفًا، بل حاجة عصبية ونفسية في عالم لا يتوقف عن المطالبة بانتباهنا، وفقا للبحث، والذي لفت إلى أن الشعور بالملل يجب أن يكون لبعض الوقت وليس شعورا عاما مسيطرا، بحيث يتحول لمشكلة أخرى.

 

 

.

 

 

شاركها.