«عائلة واحدة».. هكذا يصف الباحث في التراث البحري والإعلامي الإماراتي، جمعة بن ثالث، أبناء جميرا وأهلها، مستحضراً بصحبة «الإمارات اليوم» أبرز ذكرياته عن «أول بيت» في «جميرا الثالثة» التي تعرف بين أهلها بـ«منطقة بن ثالث»، حيث سكنت فيها عائلة بن ثالث الحميري ولاتزال حتى اليوم.
ويسترجع ملامح البيت الأول، حيث الغرفة الواحدة التي تحتضن عائلته الكبيرة وسط أجواء دافئة، إذ كان هو وأشقاؤه الستة وأختاه يعيشون في منزل يمتاز بحوش واسع يطل على بحر جميرا، موضحاً أن البيت كان مصنوعاً من الأسمنت والطابوق، وله حوش واسع بثلاثة أبواب، وكان يطل على البحر، ما جعله مكاناً للتجمع ولعب الأطفال، وكان الجزء الجنوبي من الحوش يحتوي على شبه مزرعة، بها نحو ثماني نخلات.
التلاحم العائلي
وأضاف جمعة بن ثالث عن الأجواء في فترة الستينات والسبعينات: «كانت الأسرة تجتمع تحت سقف واحد، تأكل من طبق واحد، وتتشارك الأحاديث والضحكات حول المائدة التي كانت أمراً أساسياً، خصوصاً وجبة الغداء التي كانت طقساً يومياً لا يُفرّط فيه»، لافتاً بشكل خاص إلى اجتماع العائلة في تلك الأوقات وأهميته في توثيق الروابط الأسرية، إذ لم تكن التكنولوجيا قد اجتاحت الحياة بعد، فكان التلفاز واحداً من تلك الوسائل البسيطة التي جمعت القلوب: «وأذكر جيداً حرص أبي، رحمه الله، على أن نجتمع في وقت الغداء في موعد محدد يومياً، وكان يحرص على أن يجتمع الجميع في الوقت ذاته».
وذكر أن أبناء المنطقة تجمعهم شبكة من الروابط القوية التي تعكس روح التعاون والمحبة بين أفرادها، وتمتد لتشمل الأقارب في كل زاوية من جميرا، حيث يجمع العائلات رابط قوي يعكس روح التعاون والمحبة التي تسود بين أبناء دبي، وتابع: «في جميرا لا تقتصر العائلة على منزل واحد، بل تمتد لتشمل أقاربنا في كل زاوية من المنطقة، حيث لديّ خال في المنطقة الأولى، وعمة في الثانية، ويعد أبناء جميرا كالعائلة الواحدة، ففي كل منطقة من جميرا لنا معارف، وللنساء دور كبير في تعزيز هذه الروابط وتقويتها والحفاظ عليها».
بعد حادثة الغرق
لا يُعد اهتمام الباحث في التراث البحري جمعة بن ثالث بالبحر أمراً غريباً، إذ كان جزءاً أساسياً من حياته منذ صغره، مطلقاً عليه لقب «الأب الروحي» له، إذ كانت منطقة جميرا التي نشأ فيها مكاناً مثالياً للعب والسباحة، حيث استمتع الكثيرون من أبناء المنطقة بتفريغ طاقتهم وممارسة هواياتهم في البحر، أما هو فبدأ خطواته الأولى في عالم الغوص بعد حادثة غرق شهدها في سن مبكرة، ولايزال يحتفظ بتفاصيلها حتى اليوم، ويسرد حادثة غرقه الأولى في عام 1969 قائلاً: «عندما كنت في الخامسة من عمري وقعت في الماء أثناء رحلة بالقارب مع والدي وعمي وغرقت لفترة قصيرة قبل أن ينقذني والدي، وأذكر حينها أنها كانت أول مرة يلمس فيها جسدي الماء.. أخرجني والدي من الماء، ثم قام بضربي وتعليمي السباحة بعد هذه الحادثة، وحرص على اصطحابي في رحلاته وتعليمي السباحة بشكل مستمر حتى أتقنتها، وكان هذا الموقف أيضاً دافعاً لي لتعليم أبنائي السباحة لاحقاً».
بدايات الغوص
وعن بداياته في الغوص، عبّر بن ثالث عن حنينه الكبير للوالد فرج المحيربي، رحمه الله، الذي يُعد من أوائل الغواصين، وأحد خبراء التراث البحري الذين أسهموا في تحبيب البحر ورياضة الغوص إليه منذ سن مبكرة، وتابع: «الوالد فرج المحيربي هو من حبّبنا في هذه الرياضة، وحصلت لي نقلة نوعية بعد الرحلة الأولى معه، إذ أردت تطوير نفسي في الغوص، فانتقلت إلى تعلم التصوير تحت الماء، وبدأت تصوير الفيديو تحت الماء، واشتريت المعدات على نفقتي الخاصة، وأذكر أنني كنت سعيداً جداً بشراء هذه الأدوات التي تساعدني على التصوير، وكنت أحرص أشد الحرص على الحفاظ عليها، ومع مرور الوقت تطورت إلى التصوير الثابت الذي امتهنته لاحقاً».
واستطرد جمعة بن ثالث: «في عام 2004، اشتريت أول كاميرا ثابتة تحت الماء، وكانت أول رحلة لي إلى إندونيسيا، وهناك قمت بالتقاط الصور، وواصلت المسيرة حتى أتقنت التصوير تحت الماء، وكانت هناك تحديات تتعلق بالألوان المختلفة مع عمق الماء لم أتقنها إلا بعد مرور أربع سنوات».
مصدر إلهام
يعد اهتمام جمعة بن ثالث بالتراث البحري امتداداً لتأثير والده خليفة بن ثالث الذي ألهمه حب التراث، إذ استعرض ذكرياته مع أبيه بتأثر عميق، مؤكداً أنه رغم صرامة والده وقسوته أحياناً، فإنه كان مدرسة متكاملة في الحكمة والقيم، إضافة إلى كونه موسوعة في علمه المتعلق بالتراث والزراعة على وجه الخصوص، إذ كان مصدر إلهام لأبنائه في جوانب حياتهم الشخصية والمهنية، منوهاً بأنه تعلم القيم والمبادئ التي شكّلت أساس مسيرته المهنية والشخصية من والده، واستلهم منه كيفية جمع وحفظ التراث، لاسيما خلال مرافقته له.
ويستذكر تفاصيل رحلاته مع والده التي أكسبته الكثير: «بعد حصولي على رخصة القيادة عام 1981، كنت المرافق الشخصي لوالدي لتسع سنوات، وكنت الوحيد من بين إخوتي الذي يصطحبه، وأخذت منه الكثير من الدروس والتعلم أثناء رحلاتنا إلى المزرعة والبر، وكان له دور كبير في اكتسابي للمعلومات التي أملكها اليوم، كما تعلمت منه الكثير عن الشعر والأمثال والصبر، فكان بمثابة مدرسة بالنسبة لي».
ويكمل بن ثالث عن رحلاته مع والده: «كان المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، يبعث والدي إلى مناطق مختلفة، مثل حتا وجبل علي ورأس الخيمة، وكنت أرافق أبي في هذه الرحلات، وأذكر أنني لم أتردد في الذهاب معه لرغبتي العميقة في تعلم العديد من الأمور منه، إذ كانت تلك الرحلات فرصة ذهبية بالنسبة لي لاكتساب المعلومات الخاصة بالبر، ومسميات الأشجار والمواسم والطقس، وغيرها من الأمور، وكان الوالد مدرسة».
وبدأ والد جمعة بن ثالث، خليفة بن ثالث، العمل في بلدية دبي مختصاً في زراعة النخيل، واكتسب سمعة مرموقة بوصفه خبيراً في هذا المجال ما جعله مرجعاً رئيساً للزوار الذين كانوا يقصدون منزله للحصول على استشارات حول زراعة النخيل، وأسهم في الإشراف على النخيل الموجود في شوارع دبي اليوم، ولم يتوقف اهتمامه بالنخيل عند هذا الحد، بل ظل يعتني به بشكل دقيق حتى وفاته، فكانت هذه العناية الحثيثة مصدر إلهام للكثيرين، وأسهمت في تعزيز أهمية زراعة النخيل والحفاظ عليه جزءاً أساسياً من التراث الزراعي في دبي، وكانت جهوده تذكر حتى بعد وفاته، وتم منحه أخيراً وسام شرف لشخصية «دبي للرطب 2024»، تقديراً لجهوده الكبيرة في تطوير وحماية زراعة النخيل في البلاد.
صداقات مستمرة
وعن الصداقات الأولى التي كوّنها في منطقة جميرا، يروي جمعة بن ثالث أنه لايزال يحتفظ حتى اليوم بصداقات مع عدد من الشخصيات البارزة، كالمؤرخ جمال بن حويرب، الذي كان جاره وصديقاً له منذ الطفولة: «تربطني بالأخ العزيز جمال بن حويرب علاقة جيرة، وهو أصغر مني وكان يلعب معنا منذ الصغر، وتواصلنا لم ينقطع حتى اليوم، وكذلك الأمر مع الأخ أحمد بن سعيد المنصوري»، مستذكراً أيام اللعب والنشاط في «الفريج» التي كانت مملوءة بالحيوية في تلك الأيام، حيث كانت للأحياء في تلك الأيام ذكريات مميزة.
وترتبط مناطق جميرا ومسمياتها بعائلات معينة، حسب جمعة بن ثالث الذي أشار إلى المسميات المتداولة بين أبناء المكان، والتي تعرف بها مناطق جميرا المختلفة، إذ تسمى جميرا الأولى «منطقة العيّالة»، والثانية «منطقة الحواضر»، والثالثة «منطقة بن ثالث»، والرابعة «منطقة بن فهد»، والخامسة «منطقة أهل بوعميم». أما السادسة فتسمى «فريج المحاربة» نسبة لقبيلة المحيربي، وتسكن هذه المناطق مجموعة من العائلات الأخرى أيضاً، إلا أن هذه المسميات معروفة ومتداولة بين أبناء جميرا وأهلها منذ سنوات.
متحف بحري
يحتفظ جمعة بن ثالث اليوم بمنزله الحالي في جميرا الثالثة، بمقتنيات بحرية تاريخية تعكس إرثاً ثقافياً غنياً. وقد عرضها في جزء من منزله الذي حوّله إلى متحف شخصي صمّم بدقة وبطابع تراثي يعكس التراث البحري للإمارات، ويحتوي على أدوات غوص قديمة، وقطع لؤلؤ نادرة، ونماذج لسفن وأدوات صيد نادرة، يروي كل منها قصة تتجاوز مئات السنين، ما يبرز عراقة التراث البحري في المنطقة، وحفاظه على إرث الأجداد الذي يسعى إلى نقله للأجيال المقبلة.
تواصل وترابط
على الرغم من مرور الزمن وتغيّر بعض ملامح الحياة في جميرا، والتطورات التي تشهدها، فإن المنطقة مازالت تحتفظ بالتواصل والدفء العائلي، بفضل الجهود الحثيثة للقيادة الرشيدة التي تحرص على تعزيز هذه الروابط، من خلال المجالس التي تم تأسيسها في الأحياء.
وقال جمعة بن ثالث: «تم تأسيس مجالس خاصة تدعم الترابط بين أبناء جميرا، ورغم أنها تختلف عن السابق، فإنها مازالت حية، وتشكّل ركيزة أساسية في حياة سكانها حتى اليوم».
رسالة للجيل
وجّه جمعة بن ثالث رسالة بأهمية الحفاظ على الروابط الأسرية والاجتماعية لأبناء دبي وأحيائها، ونقلها للجيل الجديد، مشيراً إلى أنها مسؤولية تقع على عاتق الجميع، من أجل تعريف الجيل الجديد بالعائلات المحيطة بهم، ما يسهم في الحفاظ على استمرار هذه العلاقات.
جمعة بن ثالث:
• أذكر أيام اللعب والنشاط في «الفريج» التي كانت مملوءة بالحيوية في تلك الفترة.
• في جميرا لا تقتصر العائلة على منزل واحد، بل تمتد لتشمل أقاربنا في كل زاوية من المنطقة.
• البحر جزء أساسي من حياتي منذ الصغر، ويمكن وصفه بـ«الأب الروحي» لي.
• 2004 العام الذي اشترى فيه جمعة بن ثالث أول كاميرا ثابتة تحت الماء، وكانت أول رحلة له إلى إندونيسيا لممارسة التصوير تحت الماء.
لمشاهدة فيديو جمعة بن ثالث في «أول بيت»، يرجى الضغط على هذا الرابط.