في مجلس لا تُغلَق أبوابه في منطقة أم فنين بالشارقة، يجلس الراوي والباحث في التراث الإماراتي سعيد مصبح بن حليط الكتبي، محاطاً بمجموعة واسعة من أبنائه وأحفاده الذين بلغ عددهم حتى اليوم 144، وبينما تفوح من مجلسه العامر بالكرم والمودة رائحة القهوة العربية التي تسبق دوماً الحكاية، يختصر كل ركن من أركان بيته الكبير سيرة عمر مديد أمضاه الوالد سعيد الكتبي في السعي الحثيث لحفظ التراث الإماراتي ونقله بكل أمانة إلى الأجيال الجديدة. فهناك، من شرفة مجلسه المفتوح لجميع القلوب، تبدو الصورة مكتملة، بنون وبنات وأحفاد «على قلب واحد» يعبرون النهار إلى مجلس الجد، ويتوارثون ألق سيرته الثرية بالمحطات الإنسانية الفارقة التي اختصرها الوالد سعيد بخلاصة حكمته القائلة «علمت عيالي ما تعلمته من مبادئ مجتمعنا الإماراتي الطيب، واليوم هم يعلّمون عيالهم.. هذا هو دستورنا.. وهذا هو السنع الإماراتي الأصيل الذي يجب أن ننشئ عليه الأجيال القادمة».

الهيبة الهادئة

وفي حديثه لـ«الإمارات اليوم» توقف الراوي والباحث الإماراتي الوالد سعيد الكتبي، عند تجربته الفريدة في هذا البيت الإماراتي الكبير قائلاً «في ذمّتي اليوم أربع زوجات، جميعهن يعشن تحت سقف واحد وفي كنف أسرة متوحدة ومحبة، تعبر فيها الخلافات اليومية مثل سحابة صيف»، وتابع ممازحاً «إذا عدت من العمل ووصلت إلى عتبة البيت، تنتهي جميع المشاحنات الصغيرة، لأن العدل شدة النظام، لا قسوته، وكما لكل زوجة مكانتها، فإن الهيبة الهادئة كانت ولاتزال القانون الذي يحفظ الهدوء دوماً».

وحول صعوبة إدارته العائلة، أكد الوالد سعيد الكتبي «عملت في فترة شبابي في الجيش، أيام كانت الظروف أصعب والحياة أكثر مشقة، ورغم الظروف الصعبة، تسلحت بالصبر والانضباط وحس المسؤولية، وهي الثوابت الأخلاقية التي غرستها في بيتي وبين جميع أبنائي، في الوقت الذي حرصت على تعليمهم ومرافقتهم في دروب الحياة وفي دروس القيم الإماراتية الأصيلة وأبرزها الروابط العائلية والاحترام المتبادل». وتابع «ما قصّرت إلا مع نفسي، ووفّيت أولادي وأهلي حقوقهم، بعد أن علمتهم السنع، وحرصت على تربيتهم وتنشئتهم بالشكل الأفضل ليكونوا أفراداً صالحين».

نعمة وعزوة

مع مرور الأيام، توسعت حكاية سعيد بن حليط الكتبي، إلى عائلة ممتدة يبلغ عددها حالياً 144 فرداً بين الأبناء والبنات والأحفاد، موضحاً «رزقني الله بـ12 ولداً و13 بنتاً، أنجبوا أبناءً وأحفاداً، وهذه نعمة كبيرة من الله، حرصت في حفظها، على أن تبقى المودة والاحترام شعار التعامل، وحرصت على أن يبقى مجلسي مفتوحاً للجميع، وقد بادرت بتخصيص يوم الجمعة للنساء وبقية الأسبوع للرجال والأحفاد والضيوف، فبات هذا «المجلس» بيت العائلة وساعتها اليومية، فالداخل يُسلِّم، والجالس يصغي، والطفل يصغي ويتعلّم».

وتابع «يتوزع الأبناء وأبناؤهم وأحفادهم على أبوظبي ودبي والعين والشارقة، لكن هذه المسافات لم تمنعهم يوماً من اللقاءات المنتظمة في البيت الكبير، وإن أبنائي وبناتي وأحفادي عزوتي الكبرى وسندي الأهم».

المعاني الأولى

وفي زمن تغزوه الشاشات الذكية وعوالم الذكاء الاصطناعي، اختار الكتبي أن يبدأ من «المعاني الأولى» على حد تعبيره، معتبراً «السنع» الإماراتي الدستور الأول، وذلك بعد أن علّم أولاده آداب الضيافة، وآداب الأكل وآداب المجالس العربية، ومنظومة القيم والعادات والتقاليد التي تشكل أساس السلوك والأخلاق قائلاً «كنت أرافقهم إلى البرّ، وأريهم معنى الطريق والمرافقة والمسؤولية، أما عندما كانوا صغاراً فلم أكن أتركهم يذهبون إلى أي مكان دون رفيق، أما البنات، فكنت أجمعهن وأعلمهن فنون إدارة البيت وتحمل مسؤولية الأبناء، في حين يتابعن اليوم تعليم أبنائهن وأحفادهن الدروس نفسها»، مؤكداً – بنبرة فخر واضحة – «سعيد اليوم بهذه التربية التي أزهرت نجاحات حياتية ومهنية واضحة؛ فابنتي سلمى محامية بارزة وإخوتها يتوزعون بين سلك الشرطة والجيش والتعليم وعدد من الدوائر الحكومية والخاصة على امتداد الإمارات».

حكايات الرحالة

لا تتوقف حكايات سعيد مصبح بن حليط الكتبي، عند رواية تفاصيل التراث الإماراتي الأصيل، بل تجاوزتها إلى سعيه الدؤوب عبر حساباته المتعددة على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى إعادة الألق لتراث بلاده وتعريف الجيل الجديد، بأهم العادات والتقاليد والإرث المجتمعي واللغوي الأصيل للإمارات وأهلها وغيرها من تفاصيل الحياة اليومية التي عاشها ورغب في نقلها بكل أمانة لأبنائه، ثم لجيل الشباب عموماً.

وتتويجاً لجهوده في مجال جمع وحفظ التراث الإماراتي، حظي الوالد الكتبي بتكريم من قبل صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ضمن فعاليات ملتقى الشارقة الدولي للراوي، الذي أقيم في شهر سبتمبر الماضي تحت شعار «حكايات الرحّالة».

الحج 41 مرة

لحكاية الوالد سعيد الكتبي قصة طويلة مع الأرقام، فبعد خطوة 144 ابناً، تعكس تجربة الكتبي مع الأرقام هذه المرة بعداً روحياً لا يغيب، تكشف في ظله الأرقام سيرة قلب لا ينقطع عن العبادة، إذ أدى الوالد سعيد الكتبي فريضة الحج 41 مرة، وسافر إلى الديار المقدسة لأداء العمرة 129 مرة، واصفاً هذه التجارب الروحانية بالقول «حججت بفضل الله مرات عدة، واعتمرت كثيراً، وكلها رحلات للقلب قبل الجسد، تُعلم الإنسان الشكر والرضا».

اعتزاز وفخر

في معرض حديثه عن علاقته المميزة بأبنائه وبناته، أكد ابنه محمد الكتبي اعتزازه وفخره بإخوته الذين حجزوا مكانة خاصة في قلبه، واصفاً إياهم «بالعزوة» والسند، منوهاً بالقول «أدين بالشكر الدائم لوالدي الذي حرص على تربيتنا وتعليمنا قيم وأخلاقيات المجتمع الإماراتي الأصيلة» وتابع ممازحاً «رغم عددنا الكبير، لم يقصر معنا الوالد في أي شيء، ولم يحرمنا أي شيء، وتحضرني اليوم ذكريات مشاوير نزهاتنا ورحلاتنا الأسبوعية الجميلة مع الوالد التي كان يستأجر فيها حافلة».

روح قيادية

بقوة شخصيته وروحه القيادية، استطاع الوالد سعيد الكتبي جمع زوجاته الأربع وأبنائه في منزل واحد ليوحدهم على كلمة واحدة ومائدة طعام واحدة لا يسمح فيها بالتخلف عن الموعد، ما زرع في الأبناء المحبة والمودة والرحمة فيما بينهم، في حين كان يخصص غرفة خاصة للاجتماعات الدورية لبحث شؤون الأسرة، فإذا حدث أي خلافات أو تقصير من إحدى الزوجات أو الأبناء فإنها تعرض أمام الجميع لأخذ العظات والعبر.

سعيد مصبح بن حليط الكتبي:

• ما قصّرت إلا مع نفسي، ووفّيت أولادي وأهلي حقوقهم، بعد أن علمتهم السنع، وحرصت على تربيتهم وتنشئتهم بالشكل الأفضل.

• عملت في شبابي بالجيش، وكانت الظروف أصعب والحياة أكثر مشقة، إلا أنني تسلحت بالصبر والانضباط وحس المسؤولية.

 

شاركها.