بين توثيق الحضارات والإرث الإنساني والتعليم، تجد المتاحف نفسها أمام تحديات ملحة للحفاظ على دورها مركزاً للمعرفة والثقافة، ولجذب جيل الشباب الذي يفضل الشاشات على القاعات التقليدية، إذ لم تعد معروضات المتاحف كافية لاستقطاب الجيل الجديد الباحث عن تجارب تفاعلية حية تعكس انغماسه في التكنولوجيا، وتلبي فضوله المعرفي بطرق مبتكرة. وأخيراً عمد العديد من المتاحف أو حتى المؤسسات التراثية لإعادة صياغة أساليب العرض من خلال الاستعانة بالواقع الافتراضي والواقع المعزز والتطبيقات الذكية، فضلاً عن العروض الغامرة التي تحول الزيارة من جولة عابرة إلى تجربة لا تُنسى، وأجمع مديرو متاحف تحدثوا لـ«الإمارات اليوم» على أن المتاحف تواجه تحديات عدة، منها كيفية رواية القصة للجيل الشاب، فضلاً عن الاستعانة بالتكنولوجيا من أجل كسر صورتها التقليدية، وتقديم فضاءات مفتوحة على التفاعل.

مفهوم تقليدي

وقال مدير متحف الشندغة، عبدالله العبيدلي، عن كسر المتاحف للصورة التقليدية: «إن المتاحف تمكنت من تجاوز مفهومها التقليدي، بوصفها أماكن مخصصة لحفظ المقتنيات والقطع الأثرية، وتحولت إلى فضاءات مفتوحة للتعلم والتفاعل المجتمعي، ويشهد قطاع المتاحف في دبي تطوراً لافتاً، وقد نجحت هيئة الثقافة والفنون في دبي (دبي للثقافة) في تحويل متحف الشندغة أكبر متحف تراثي في الدولة ومتحف الاتحاد إلى مساحات حيوية تسهم في تعزيز التواصل والتفاهم، وتشجع على تبادل الخبرات»، ولفت إلى أن المتاحف تسعى من خلال مبادراتها ومشاريعها المتنوعة إلى استقطاب فئة الشباب وتشجيعهم على التفاعل مع المتاحف وما تتضمنه من تجارب ثقافية متنوعة، واعتبر العبيدلي أن التقنيات الحديثة باتت تمثل جسراً فاعلاً يربط الشباب بعالم المتاحف بطريقة تفاعلية مبتكرة، وأوضح أن «دبي للثقافة» توظف في متحف الشندغة ومتحف الاتحاد أحدث تقنيات العرض التي تُمكّن الزوار من استكشاف تاريخ دبي بطرق تفاعلية مبتكرة، وتتيح لهم خوض مسارات ثقافية استثنائية، ونوه بأن المتحفين يعتمدان على مجموعة من التقنيات الرقمية والأدوات التعليمية المتنوعة التي تعزز دورهما في ربط الأجيال بالتراث المحلي، وتساعد في ترسيخ الهوية الوطنية في نفوس أبناء المجتمع.

مكانة المتحف

من جهته تحدث المدير التنفيذي لمتحف المستقبل، ماجد المنصوري، عن جذب المتحف للزوار، وقال: «منذ افتتاح المتحف في فبراير 2022 وحتى الآن، استقبلنا أكثر من أربعة ملايين زائر من مختلف أنحاء العالم، وهو إنجاز يعكس مكانة المتحف كأحد أبرز المعالم الثقافية والعلمية في المنطقة والعالم، وتُظهر بيانات الزوار أن فئة الشباب تمثّل نسبة كبيرة من جمهور المتحف، كونهم الأكثر تفاعلاً مع التجارب الغامرة والمحتوى المعرفي الإبداعي والبرامج التعليمية والتفاعلية التي نقدمها»، وأضاف: «نحن نعتبر أن التحدي الحقيقي لا يكمن في جذب الشباب، بل في الحفاظ على اهتمامهم وإلهامهم من خلال تقديم محتوى متجدد وتجارب متطورة تواكب سرعة التغيير في التقنيات والاهتمامات والتوجهات المستقبلية».

ولفت المنصوري إلى أن متحف المستقبل يعتمد على منظومة متكاملة من البرامج التعليمية والمبادرات المعرفية التي تهدف إلى تمكين الشباب بالمعارف والمهارات التي تؤهلهم للمستقبل، مع التركيز على التعليم التفاعلي مع التقنيات المستقبلية، وتعزيز قدرة الابتكار والإبداع، موضحاً أنه من بين أهم هذه المبادرات البرامج والمخيمات التفاعلية «مخيم أبطال المستقبل» الذي يقدم محتوى متخصصاً يشمل علوم الفضاء، والتكنولوجيا المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، والاستدامة، وريادة الأعمال، إضافة إلى مهارات التفكير التصميمي والقيادي، ونوه بتقديم متحف المستقبل ورش عمل وتجارب موسمية مع خبراء ومختصين عالميين، بما يتيح للشباب فرصة فريدة لاكتساب معرفة مباشرة من أصحاب التجربة، مشدداً على أن هذه الجهود تبرز ضمن منصات فكرية ومعرفية موجهة للشباب مثل برنامج «الملتقى المعرفي» الذي ينظم بالتعاون مع مبادرة نوابغ العرب، وسلسلة لقاءات «خبراء المستقبل»، حيث تُوفر هذه البرامج مساحة للحوار المفتوح بين الشباب، وروّاد الابتكار، والعلم، والتكنولوجيا، وأكد أن الطابع التفاعلي لهذه المبادرات يجعلها تسهم في تعزيز التفكير النقدي، وتمكين المهارات المستقبلية، وترسيخ روح الابتكار والإبداع لدى الشباب في بيئة تعليمية ملهمة ومحفزة.

ورأى المنصوري أن التقنيات الحديثة هي الركيزة الأساسية في تصميم تجارب المتحف، حيث يتم في متحف المستقبل توظيف تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزّز لتقديم تجارب غامرة، وتُستخدم حلول الذكاء الاصطناعي للتفاعل مع الزوار بأساليب مبتكرة تجعل الزائر جزءاً من التجربة، فضلاً عن توفير مختبرات متخصصة في مجالات الصحة، المدن الذكية، الطاقة، والنقل، إلى جانب المعرض الدائم للابتكارات المستقبلية، وهذه المنظومة مجتمعة تشكّل منصة تفاعلية متكاملة تلبي اهتمامات الجيل الرقمي وتحفّزهم على المشاركة الفاعلة في صياغة مستقبلهم.

وشدد المنصوري على تعزيز العلاقات الأكاديمية وبناء شراكات تعليمية طويلة الأمد بين المتحف والجهات التعليمية، ومن أبرزها الشراكة الاستراتيجية مع المؤسسة الاتحادية للشباب التي تهدف إلى دعم تطوير مهارات الشباب وتوفير بيئة محفزة لهم من خلال فعاليات مشتركة، مؤتمرات، وورش عمل متخصصة، مشيراً إلى أن الحرص على توسيع نطاق التعاون مع الجامعات ومعاهد البحث المحلية والدولية لتقديم برامج بحثية وفرص تدريبية عملية، يسهم في نقل المعرفة وتطوير المواهب الوطنية.

تجارب شخصية

بينما لفت مؤسس متحف «1185»، الدكتور عبيد الكتبي، إلى أن الفئات العمرية التي تزور متحفه الخاص متنوعة، وذلك بسبب التعاون مع مؤسسات محلية وجامعات وكليات ومدارس، إلى جانب فئة الزوار العالميين الذين يقصدون المتحف من خلال الزيارات الرسمية للدولة، موضحاً أن المتحف يعتبر مكاناً ملهماً ولاسيما للأجيال الجديدة، إذ يجد الزائر ما يلامس شخصيته، خصوصاً أن المتحف يتضمن أكثر من 15 ألف قطعة وقصة تُروى للناس، وأشار إلى أن المتحف يروي العديد من التجارب الشخصية منذ العام 1971 إلى يومنا هذا، وهو ينطوي على القصص الجميلة التي تساعد الناس على رؤية الأمل عبر التعرف على الإنجازات، واعتبر أنه لابد من وضع استراتيجيات لجذب فئة الشباب على نحو أكبر، مؤكداً أن عدد الزوار من فئة الشباب لا يصل إلى الطموحات، ولابد من وضع السياسات الجاذبة، وتوجيه هذه الفئة، لاسيما أن المتحف يحمل الكثير من القطع النادرة والشخصية، وبالتالي يستهدف الشباب من الفئة الصغيرة، ورأى الكتبي أن العالم يعيش اليوم طفرة تكنولوجية لا يمكن التغاضي عنها، لذا من الضروري توظيف التكنولوجيا لخدمة المجال الذي نعمل فيه، ومن خلال توظيفها بالشكل الصحيح يمكن خدمة المجتمع، موضحاً بأن الجهات المسؤولة يجب أن تلتفت إلى كيفية جذب فئة الشباب للمتاحف، ورأى أن المتاحف الخاصة تكمل عمل المتاحف الحكومية، فهي تروي القصص الشخصية التي لا نجدها في المتاحف الحكومية، ولابد من الاستفادة منها على نحو جيد، لافتاً إلى أن المتاحف الخاصة تحتاج إلى تبنّي قوانين واستراتيجيات، لاسيما أن هناك ما يقارب المليون قطعة في البيوت، ومنها قطع قيّمة يجب أن يتم احتواؤها ووضع نظام للاستفادة منها، وأشار الكتبي أن دولة الإمارات تشتمل على أكثر من 250 متحفاً حكومياً وخاصاً، وعدد المتاحف الخاصة يقارب 150 متحفاً وهو ليس عدداً بسيطاً، ونوه بأنه لابد من وجود تَبَنٍّ لفكرة المتاحف الخاصة من أجل دعم الإرث الوطني، كما أنه لابد من إيجاد تَجمُّع في كل إمارة للمتاحف الخاصة، ووضْع التشريعات التي تنظم عملها وتتبنى توجيه الزوار، وتصنيف المتاحف الجيدة ودعمها من أجل الاستمرار.

بيئة مثالية للشباب

من جهتها، تحدثت الأمين العام للمجلس الدولي للمتاحف، قسم التاريخ الطبيعي، والباحثة في متحف تايوان الوطني، فييدرا فانغ، عن تجربة المتحف التايواني في جذب الشباب، مشيرة إلى أن المتحف يقوم بمشروع توظيف طلاب الجامعات وتدريبهم، وهذا يوجِد بيئة مثالية للشباب من أجل التفاعل مع الناس من خلفيات ثقافية مختلفة، لاسيما أنهم يعملون في قسم الجولات المتحفية، وبعض هؤلاء الطلاب هم أجانب يُمضون أوقات طويلة في المتاحف ويحولون وجودهم إلى عمل، ولفتت إلى أن الشباب وكذلك الطلاب الصغار غالباً ما تكون الفئة التي يصعب على المتاحف الوصول إليها، وبالتالي فإن تحويل وجودهم إلى عمل هو ما يشجعهم على الاندماج، واعتبرت أن الشراكات التي تبنى بين المتاحف والمؤسسات التعليمية تعمل على رفع عدد الزوار من فئة الصغار، موضحة بأن العمل على فئة الشباب يتطلب ما هو أكثر من الشراكات، فهذه الفئة تعيش مرحلة تقرير المصير، لذا فالتعامل معها يتطلب إعادة تقديم سردية المتحف بشكل متكامل، ورأت أن تايوان تشتهر بالتكنولوجيا، وحتى الأجيال الكبيرة تتعامل مع التكنولوجيا بشكل مرن وطبيعي، موضحة أن هذه التقنيات هي أدوات تُسهِّل الوصول إلى الهدف، ومشددة على أهمية أخذ الحيطة من الذكاء الاصطناعي الذي قد يقوم بخطوات غير متوقعة في المتاحف، ونوهت فييدرا فانغ بأن التحدي الأساسي الذي يواجه المتاحف في هذا العصر يكمن في كيفية رواية القصة، مشددة على أن التقنيات الحديثة قد تكون جاذبة للصغار على سبيل المثال، ولكنها في الواقع قد تطغى على اهتمامهم بالمعلومات المقدمة، ولابد من الموازنة في كيفية استخدام هذه التقنيات من أجل إبهار الصغار وجذب اهتمامهم، دون أن تصبح هي نفسها الموضوع الرئيسي.

• المتاحف تواجه تحديات ملحة لجذب جيل الشباب الذي يفضّل الشاشات على القاعات التقليدية.

شاركها.