ينبض الشعر الشعبي بروح الناس وقضاياهم ومشاعرهم ولهجاتهم، إنه الشعر الذي لا يتكلف الفصحى، بل يخاطب الجمهور بلغة القلب والشارع والذاكرة، حاملاً في طياته الهوية والتراث والوجدان الجمعي، وعلى الرغم من التنوع الذي يحمله الشعر المحكي بتنوع لهجاته، إلا أنه يبقى موحداً في إيصال الكلمة الحية القريبة من الناس، والمشبعة بروح الزمان والمكان، وأكد شعراء التقتهم «الإمارات اليوم» على أن الشعر المحكي يحظى بجمهور أوسع من الفصيح، لسهولة مفرداته وحرارة معانيه، خصوصاً أنهم في الآونة الأخيرة استفادوا من منصات التواصل الاجتماعي كثيراً، إذ باتت الأخيرة منبراً لهم، ما مكنهم من الاقتراب من الجمهور.

هوية الشاعر

الشاعرة الإماراتية، فطيم الحرز، تحدثت لـ«الإمارات اليوم» عن ميزات الشعر الشعبي الإماراتي، وقالت: «يتميز الشعر الشعبي بأنه من صميم حياة الناس، ويمكن التعرف إلى ثقافة المجتمع من خلاله، لأنه يكتب بشعبية بحتة من حيث المفردات والمصطلحات، وهذا ما يجعل المستمع يكتسب مفردات أصيلة، ويتعرّف إلى الهوية الإماراتية»، وأضافت: «يتميز الشعر الشعبي بكونه يعكس هوية الشاعر، سواء كان من بيئة بحرية أو برية أو جبلية، وهذا يتجلى في القصيد، وفي المصطلحات التي يستخدمها، وكذلك في النطق، وفي العد الذي يختلف كثيراً بين البيئات المختلفة».

ولفتت الحرز إلى أن البحور الشائعة التي تحضر في الشعر الشعبي الإماراتي، هي الونة والهلالي فضلاً عن المربوعة، فيما تتسم الصور الشعرية بكونها تركز على البحر وتبدلاته بين المد والجزر، إلى جانب استخدام قساوة وجفاف الصحراء في وصف قسوة الحبيب، أو حتى مفهوم الصلابة، فيما يصف شَعر المرأة بالليل، وعيونها بالدعج، واعتبرت الحرز أن الشعر الشعبي يسهم في حفظ التراث المحلي، لأنه يقدم بطريقة أبلغ وأبسط للمستمع، موضحة أن المسموع أسهل للحفظ وللذاكرة، ولهذا فإن الشعر المسموع يحتوي على الموسيقى، مؤكدة أن الشعر الشعبي والفنون الشعبية، ومنها العيالة والرزفة، يكمل بعضهما بعضاً.

ورأت الحرز أن الشعر الشعبي كان في السابق يحظى بالاهتمام أكثر من الوقت الحالي، مشيرة إلى وجود حاجة لتقدير الشعر الشعبي الإماراتي والإضاءة عليه.

ونوهت الحرز بأهمية إدخال بحور الشعر الشعبية على المناهج التعليمية، كي يتعلم الجيل الجديد الشعر الذي يعكس التراث المحلي، وعدم الاكتفاء بالتركيز على اللغة العربية الفصحى، وأكدت أن بعض الشعراء استفادوا من وسائل التواصل الاجتماعي، وليس الجميع، مشددة على أن هذه المنصات تتطلب المعرفة بكيفية النشر وطبيعته وتوقيته، ورأت أن المعايير المرتبطة بالنشر يجب أن تنطلق من رغبة الشاعر في نشر القصائد التي يرغب في نشرها، وعدم الانسياق وراء الـ«تريند»، أو النظر إلى ما يجذب الجماهير.

مجال أوسع

من جهته، تحدث الشاعر اللبناني، سليمان حذيفة عن أوزان الشعر المحكي مقارنة بالفصحى، مشيراً إلى أنها تتشابه إلى حد كبير، وقد تختلف في جزئيات، فالشعر المحكي يعتمد اعتماداً كبيراً على البحر الخليلي المتعارف عليه بالشعر العمودي، مشيراً إلى أن شعراء المحكي لديهم مجال أوسع في التعاطي مع الصورة الشعرية، إذ يمكن للشاعر التفلت من الصرف والنحو، بينما الكتابة بالشعر العمودي أكثر تقييداً وصرامة، كما أن الإدهاش باللهجة المحكية يكون أكبر، ورأى حذيفة أن الشعر الشعبي له جمهور أكبر من الشعر الفصيح، ولكن الاختلاف يكمن في أين يكون جمهور الشاعر، لأن الشعر الشعبي محلي بحت، وجمهور الشاعر يكون في بلده دائماً، واستطرد حذيفة للحديث عن الزجل اللبناني الذي يعتبر الأب الحقيقي للشعر المحكي اللبناني، موضحاً أن حفلات الزجل مازالت تقام في لبنان، وتشهد حضوراً كبيراً، علماً أن دخول الناس لهذه الحفلات يكون بشراء التذاكر، وهذا يؤكد أهميته وعدم اندثاره.

وميز حذيفة بين الزجل والشعر المحكي، مشيراً إلى أن الزجل شعر منبري، قوامه التحدي وفكرة مقابل فكرة، ويحتمل الحشو، ولكنه حشو محبب غير مكروه، بخلاف الشعر المحكي الذي يقوم على التكثيف، لذا فإن الإدهاش في القصيدة المحكية أكثر من الزجلية، ورأى أن القصيدة اللبنانية متقدمة بالصورة الشعرية على العديد من الشعر المحكي في الدول العربية، دون أن ينكر وجود جماليات في المحكيات الأخرى، موضحاً أن القصيدة المحكية اللبنانية تنبع من اللاموجود، وهي غير مرتبطة بالبيئة، وهذا ما يمكن ملامسته في الأغنية اللبنانية التي تعتبر من أولاد الزجل اللبناني.

وحول الأغنيات التي تكتب باللهجة المحكية، نوه بأن الأغنية التي تكتب اليوم وتلحن لا علاقة لها بالشعر المحكي، مشدداً على أنه بالمقابل كل قصيدة يمكن أن تغنى، متأسفاً على حال الأغنية التي باتت في الدرك الأسفل، لأنها باتت تعتمد على اللحن وليس الكلام.

قصيدة متكاملة

الشاعرة السورية، أحلام البناوي، قالت إنها نشأت في أسرة تحب الشعر بأنواعه، الفصيح والمحكي والزجل، وبدأت بالكتابة قبل أن تتعلم الوزن، لكنها في وقت لاحق درست الأوزان، موضحة أن الشعر المحكي هو قصيدة متكاملة في الوزن والقصص والقواعد، وله أحكامه في الكتابة، وهي تعمل على القصيدة المحكية تماماً كما تعمل على الشعر الفصيح، سواء لجهة الصور الشعرية أو الخيال أو الوزن، ولفتت البناوي إلى أن العاطفة تظهر على نحو أكبر في الشعر المحكي، لأن الشاعر يتحدث وكأنه يحكي مع الذات أثناء الكتابة، ويستخدم مفردات قريبة من الناس، ولهذا القصيدة تؤثر في الشاعر نفسه والجمهور المستمع، مؤكدة أن الفصيح يحمل المشاعر، ولكنْ دائماً هناك خيط غير واضح بين بعض الناس والقصيدة الفصحى التي لا تقدم للجمهور باللهجة الحياتية اليومية.

واعتبرت البناوي أن الشعر المحكي مرجع ثانوي للتاريخ، فاللهجة هنا الأصدق تعبيراً عن الناس، فهو يكتب المجتمع وعاداته وتقاليده، وأحياناً أمثاله الشعبية، وهذا ما يجعله يمثل عملية تأريخ ولسان حال مجتمع، ويصون التراث، ويؤكد على ترسيخ الهوية، وأكدت على أن الشعر المحكي أكثر ملاءمة للإلقاء من تقديمه في ديوان، لأن الشعر المحكي يُظلم كتابة، وقد يصعب على الناس قراءته، وتقديمه على المنبر يكون أكثر إنصافاً له، لأن موسيقى الشعر المحكي تأتي من اللهجة نفسها وليس فقط من الإلقاء.

ورأت البناوي أنه قد يكون هناك اهتمام أكبر بالشعر الفصيح، ولكن هذا يأتي من منطلق حماية اللغة العربية، لاسيما أن لغة الضاد تجمع مختلف الجنسيات العربية، موضحة أن هذا لا يقلل من أهمية الشعر المحكي لأنه لا يموت، ويتم تناقله وتوارثه ويحافظ على وجوده بنفسه، ولفتت إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أوجدت منصة للشعراء لتقديم شعرهم، فيمكن لكل شاعر تقديم أمسية من منزله في بث حي ومباشر.

قيود اللغة

أما الشاعر المصري، محمد تركي، فيكتب الشعر باللغة العربية الفصحى، وكذلك باللهجة المحكية، وبدأ بكتابة الشعر الشعبي باللهجة الإماراتية، حيث ولد ونشأ، ثم اتجه إلى كتابة القصيدة الشعبية المصرية، وكتب أول قصيدة ونشرها عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ووجد تفاعلاً كبيراً من الجمهور، ونوه بأن الفرق الجوهري بين القصيدة باللغة العربية الفصحى والمحكية هي قيود اللغة العربية، لأنه لا يمكن تجاوز قواعد اللغة، فيما المحكي تنطبق عليه مقولة «يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره» أكثر من الفصحى، ورأى أن القصيدة المحكية يمكن أن تتناول الكثير من القضايا المرتبطة بحياة الناس اليومية، موضحاً أن اللهجة المصرية قريبة جداً من الجمهور العربي، بفضل انتشارها من خلال السينما والدراما.

وأكد تركي أن الشعر المحكي يقدم صورة أوضح وأجمل نظراً للإحساس الذي يمكن أن يصل للناس من خلال اللهجة والكلام العام الذي يحمله، ولهذا فجمهوره أوسع، فهو لا يتطلب التمعن الكبير من المتلقي لفهم الصورة الشعرية التي قيلت في بيت الشعر، وأشار تركي إلى أن القصائد المحكية يفهمها مختلف شرائح المجتمع، وليس حصراً بفئة المثقفين كما هي الحال مع القصائد الفصيحة، موضحاً أن دور النشر قد لا تهتم كثيراً ببيع أو تسويق دواوين الشعر المحكي، كما هي الحال مع القصائد الفصحى، وذلك على الرغم من الاهتمام الكبير الذي يلاقيه الشعر المحكي من الجهات الحكومية، ففي الإمارات نُظّمت مسابقات للشعر النبطي.

شاركها.