في زمنٍ تحقق التكنولوجيا تطورات سريعة وغير مسبوقة، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة، بل بات قوة تفرض نفسها في عمل الكثير من القطاعات، وأبرزها الإبداع وصناعة النشر والكتابة التي لطالما كانت حكراً على العقل البشري، إذ اخترقت الخوارزميات عالم المحتوى، من النصوص الأدبية والشعرية، أو حتى قصص الأطفال ورسومتها، وأطلق الذكاء الاصطناعي العنان لإمكانات غير محدودة بأسلوب يحاكي الإنتاج الإنساني.. هذا التطور والتحول الجذري يطرح العديد من الأسئلة حول أصالة النص، وكيف يمكن حماية حقوق الملكية الفكرية في ظل هذه الطفرة، والدور المستقبلي للكاتب في وقت باتت التقنيات الحديثة قادرة على الإنتاج ببراعة وبوقت قياسي؟ وعلى ماذا يعوّل المختصون وأهل الخبرات الذين التقتهم «الإمارات اليوم» لحماية الإبداع الأصيل من هذا الاقتحام السريع، والتكنولوجيا التي تطل لدى البعض من دون حزام أمان؟

ميزات بالجملة

من جهته، قال رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، الدكتور علي بن تميم، إن التحولات والبنية التحتية المتوافرة في دولة الإمارات تساعد على تحويل الذكاء الاصطناعي والتحولات الرقمية، وتوظيفها لجعلها في خدمة اللغة العربية، مشدداً على أنه لا ينبغي الاستعداد للتحولات الجديدة فحسب، بل لابد من البدء بقوة، لأن ثمة ميزات كثيرة ستتم الاستفادة منها من خلال الذكاء الاصطناعي، لاسيما حينما نأتي إلى سياق الثقافة العربية.

ورأى الدكتور بن تميم أن التحول الرقمي لا يُشكل تحدياً، وإنما فرصة كبيرة يجب الاستفادة منها، إذ لابد من التعامل مع هذه الأدوات على أنها أمر حتمي لا خيار فيه، وهذا سينعكس على الثقافة والحضارة، والكتاب والتراث العربي ومستقبل الأجيال المقبلة، خصوصاً أن اللغة العربية منظمة على نحو كبير وقادرة على التفاعل مع الذكاء الاصطناعي بسهولة، معتبراً أن هذه الأدوات لن تمس حقوق الملكية الفكرية، فهناك متابعة للقرصنة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، وستظهر في المستقبل حلول كبيرة عبر هذه الأدوات، كما أن دور النشر العالمية والرقمية باتت تصنف فرصة اختراق الكتاب الرقمي بالأمر المستحيل، لأن الخوارزميات الحديثة تتعقب الكتب وترسل إنذارات للمواقع الناشرة في حال تمت القرصنة، وهذا يُشكل حماية من السرقة.

عامل مساعد

من جهته، قال رئيس اتحاد الناشرين المصريين، الدكتور فريد زهران، إن «الذكاء الاصطناعي يساعد المؤلفين في البحث عن معلومات في عملهم وكذلك في التدقيق، ولكن إن تعدى الأمر هذا الإطار، فلن يكون مساعداً للمؤلفين وإنما لـ«اللصوص»، ولا نتمنى تسللهم إلى قطاع النشر والإبداع»، مشيراً إلى أن هذا يزيد من الأعباء على الناشر لأنه لابد له من التحقق من أصالة النص التي تختبر من قبل الناشر من معرفته بالمؤلف ومدى ثقافته وحضوره في المشهد الثقافي.

ولفت إلى أن هذه الأدوات كانت موجودة طوال الوقت، والذكاء الاصطناعي ليس بهذه الحداثة كما يظن البعض، ولكنه أداة أكثر عمقاً وتعقيداً وتركيباً، وليست الأولى ولن تكون الأخيرة، مشدداً على أن تعدي حدود استخدامها سيصنف على أنه سرقة، ونوه بأن حركة النشر في الكتب المعتمدة على المعلوماتية ستكون أكثر تأثراً وسيقل إنتاجها، فهذه المعلومات متوافرة ويسهل الوصول إليها، وبالتالي التطبيقات ستوفر المعلومات المرجعية، بينما الكتب التي تعتمد على الإبداع سيزيد إنتاجها، معتبراً أن التجارب التي أنتجت من خلال هذه التقنية تكون واضحة المعالم لأنها لا يمكن أن تضاهي الإبداع الإنساني.

سؤال مؤرّق

أمّا مؤسِّسة دار البومة للنشر والتوزيع، الكاتبة نادين باخص، فأكدت أن السؤال حول ارتباط الذكاء الاصطناعي بالنشر والكتابة بات مؤرقاً، بسبب مجموعة من العوامل، على رأسها القلق الذي ينتاب صاحب أي دار نشر حول أصالة النصوص التي يتسلمها من المؤلف، مضيفة أنه توجد أدوات تحدد هوية المؤلف ومدى مشاركة الذكاء الاصطناعي له.

لكنها لم تستبعد أن التطور التكنولوجي الكبير قد يجعل الذكاء الاصطناعي قادراً على إخفاء هويته من أي عمل يقوم به، كاشفة عن أنها في عملها بدار النشر تستعين بالذكاء الاصطناعي، ولكن في تنظيم ووضع الخطط الخاصة بالعمل، إذ يوفر ساعات طويلة، ويسهم في وضع الأفكار الخاصة بالأنشطة وورش العمل.

فترة دراما

من ناحيته، قال مؤسس منشورات مصابيح لكتاب الطفل، قاسم سعودي: «إننا نعيش في فترة دراما الذكاء الاصطناعي الذي لابد من مواكبته، فأهم سلبياته أنه لا يدع الكاتب مبتكراً ولا الناشر أو حتى الرسام، إذ بات يمكنه تقديم أجمل الروايات الخاصة بالأطفال أو المراهقين مع الرسوم»، وأشار إلى أن هذه الأدوات قد تؤدي إلى التخلي عن وظيفة الرسام في قصص الأطفال بشكل خاص، لاسيما أنه يتم اليوم إنتاج كتب أجيال المستقبل برسوم كاملة مصممة بالذكاء الاصطناعي، وقد يمتد هذا التأثير إلى الكاتب والناشر في مرحلة لاحقة.

وأكد أنه يؤيد الذكاء الاصطناعي في الطب والمجالات العلمية، ولكن ليس في المجالات الإبداعية، موضحاً أنه قد يؤثر في المخيلة الإبداعية للكاتب، وقد يصبح التأليف متاحاً للجميع، مشيراً إلى أن أغلبية دور النشر أو حتى الرسامين يعتمدون على التكنولوجيا في تقديم التصور الأولي للشخصيات، مستدركاً بأن مواكبة التطورات مهم وأساسي، ولابد من اللحاق بالقطار، وهذا يحتاج إلى توأمة بين الناشر والكاتب والرسام والذكاء الاصطناعي.

الأمانة.. الضمانة

وقال رئيس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية، الدكتور ياسر سليمان: «في ظل الذكاء الاصطناعي، يجب على الجوائز الأدبية أن تؤكد على أحد شروطها الأساسية وهو أن يكون النص أصيلاً، وأن يكون ادعاء الكاتب بأصالته صادقاً»، مشيراً إلى أن الذكاء الاصطناعي فيه من الذكاء ما يخوله كشف أصالة النص، ثم إن أخطاء البشر تختلف عن أخطاء الذكاء الاصطناعي، وهناك مصادر تؤكد أن الأخير لم يطوّر العاطفة، ويعمل على نصوص تم إنتاجها في الأصل من خلاله، وكأنه يعيد إنتاج نفسه.

وأضاف سليمان: «نحن في مخاض كبير، وخط الدفاع الأول أن يكون لدى الكاتب الأخلاق، ولابد من إعادة النظر في كيفية التحقق من النصوص وأصالتها من القائمين على الجوائز، فمهمة منحها ستتطلب مزيداً من الوقت». وأشار إلى أن الذكاء الاصطناعي له الكثير من الفوائد الإيجابية، لاسيما في مجال الأبحاث والكتابة الأكاديمية، والترجمة، إذ يختصر الوقت، ولكن بالتأكيد قد يسلبنا الكثير، لأن ضحيته الأولى هي الأمانة والأخلاق، فهي أداة حيادية وتعتمد على كيفية توظيفها واستخدامها، ولابد من وجود حزام واقٍ حول استخدامها وعلى رأسه الأمانة».


رسامو أدب الأطفال.. ضحية أولى

رأت مؤسِّسة دار البومة للنشر والتوزيع، الكاتبة نادين باخص، أن الأدوات التكنولوجية الجديدة قد تتسبب في كسل دماغي، فهناك نوع من الاستسهال والاعتماد الكلي عليها، خصوصاً في الترجمة أو صياغة المراسلات الإلكترونية، فهي أدوات تقوم على جمع البيانات، وبالتالي لا يجب منحها كل المعلومات أو الكتابات الأصيلة، وأشارت إلى أن الذكاء الاصطناعي أثّر بشكل كبير في كتاب الطفل، لاسيما لناحية الرسوم التي باتت تقدم من خلاله وتم الاستغناء عن رسامين في كثير من التجارب، فهو يحاول أخذ الروح البشرية، وقد يتفوق على البشر مستقبلاً.

• الذكاء الاصطناعي بات قوة تفرض نفسها في عمل الكثير من القطاعات، وأبرزها الإبداع وصناعة النشر والكتابة.

شاركها.
Exit mobile version