كشف التقرير السنوي لمكتب الإحصاء الأمريكي، الصادر في وقت سابق من شهر سبتمبر الجاري، عن تضاعف نسبة الفقر بين الأطفال في العام الماضي، وهي أعلى نسبة زيادة تسجل على الإطلاق خلال سنة واحدة. التفاصيل الواردة في التقرير لم تَبدُ مفاجئة، ولكنها أكدت الواقع، وقد تعد نتيجة حتمية للسياسات القائمة.

فبسبب تراكم آثار سياسة وقف تمويل برامج الإغاثة الفيدرالية التي اعتمدت خلال جائحة «كورونا»، وعدم إقرار برامج أخرى بديلة عنها، باتت نسبة الفقر بين الأطفال مرشحة للزيادة المستمرة خلال السنوات المقبلة.

فقد توقف عدد من برامج الإغاثة الفيدرالية التي اعتمدت خلال الجائحة عن تقديم خدماتها، أو اقتربت من وقفها؛ كبرامج خدمات الرعاية الصحية والغذاء والإيواء ورعاية الأطفال، ولا سيَّما برنامج الإعفاء الضريبي الموسع للأطفال. قائمة البرامج المتوقفة تضم أيضاً وقف مخصصات الطوارئ للمساعدات الغذائية والإيجار، وكذلك وقف تغطية المساعدات الطبية.

وستكون هناك ضربة كبيرة في نهاية الشهر الجاري، عند انتهاء تمويل برنامج رعاية الطفل في حالات الطوارئ الإغاثي. فبحسب تقرير صادر عن مؤسسة «سينشري» الدولية، فإن 3.2 ملايين طفل سيفقدون فرصتهم في الحصول على الرعاية خلال الأشهر المقبلة، كما أنّ 70 ألفاً من مراكز رعاية الأطفال ستغلق أبوابها، وسيواجه أكثر من 200 ألف موظف في القطاع خطر فقدان وظائفهم.

وقد كان معدل ارتفاع التكاليف المخصصة لبرامج رعاية الأطفال، وتكاليف برامج ما قبل المدرسة أعلى من معدل التضخم؛ مما يعني اضطرار المراكز التي ما زالت تعمل في مجال رعاية الأطفال إلى زيادة رسومها؛ كما يدفع إنهاء برامج رعاية الأطفال الفيدرالية لانسحاب مزيد من النساء العاملات من سوق العمل، مما يؤدي لارتفاع معدل التضخم، وتباطؤ الانتعاش الاقتصادي.

في ضوء هذه المعطيات، لن يكون من المستغرب النتائج المترتبة على الحرمان المزمن للأطفال وعائلاتهم. فخلال ثمانية أعوام، أجريت دراسة لقياس معدل حياة الأطفال الذين نشأوا في حي «كنسينغتون»، أحد أكثر الأحياء فقراً في ولاية فيلادلفيا. وقد أظهرت الدراسة أن متوسط عمر الأشخاص المولودين في الحي الفقير هو 71 عاماً، وهو يطابق متوسط عمر الأشخاص في دول مثل: مصر، ومملكة بوتان، وأوزبكستان، إلا أنه يقل بمقدار 17 عاماً عن معدل أعمار الأشخاص الذين عاشوا طفولتهم في حي «سوسايتي هيل» الغني، الذي يبعد مسافة أربعة أميال من الحي الفقير.

وعندما التقيت للمرة الأولى مع إيمانويل كورينو، الطالب البورتورويكي من كنسيتغتون، كان لا يزال يعيش مع والدته، وهي من ذوات الإعاقة، في منزل متداعٍ يفتقر إلى الكهرباء والماء الساخن. كما كانت غرف المنزل متسخة ورثة، وحوض الاستحمام مهدد بالسقوط عبر التشققات في السقف المتصدع في المطبخ. وفي إحدى الليالي، استيقظ إيمانويل نتيجة ألم حاد. تلمّس شفتيه، وعبر الضوء المنبعث من شاشة هاتفه المحمول، اكتشف أن أصبعه صبغ بلون الدم، نتيجة تعرضه لعضة جرذ.

كان ذلك المنزل هو أفضل سكن تمكنت والدته من العثور عليه، بسبب ميزانيتها المحدودة. فلم تكن تملك مصدراً للدخل بجانب ما يضمنه لها برنامج المساعدة المؤقت للأسر الفقيرة.

وقد عبّر الطالب البورتورويكي إيمانويل عن مشاعره بقصيدة شعرية قال فيها: «أذكر أنني طلبت من الله أن يمنحني بيتاً سعيداً»، «بيت يقع حيث لا يتعين عليّ فيه الشعور بالضغينة في قلوب الناس، وحيث لا يتعين علي القلق من إصابتي بطلق ناري في الحديقة».

ورغم معاناة إيمانويل الناتجة من السكن غير المناسب والصعوبات الاقتصادية التي يواجهها، إلا أنه تمكن من التخرج من مدرسة «إلكانتروا» الثانوية، وهي مدرسة للتعليم البديل، تتلقى دعماً من المتبرعين. كان إيمانويل بالغاً عندما أقرّ دونالد ترامب وجو بايدن أهم تدابير مكافحة الفقر بتريليونات الدولارات منذ عقود -على شكل المدفوعات الخاصة بمواجهة التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا، إلى جانب مخصصات التأمين ضد البطالة والإعفاء الضريبي الموسع للأطفال. وقد ساهمت تلك القرارات، في إخراج عشرات ملايين المواطنين الأمريكيين من دائرة الفقر وخطر انعدام الأمن الاقتصادي؛ وقد كان إيمانويل واحداً منهم. وأثبتت التجربة أن المساعدات الإغاثية التي قدتمها برامج مواجهة الجائحة، تعد دليلاً على أن الفقر ليس أزمة غير قابلة للحل عندما تتوفر الإرادة السياسية المطلوبة.

ويقول الخبير الاقتصادي أمارتيا سين إن الفقر لا ينطبق وصفه فقط على حالة انخفاض الدخل، وإنما يشمل أيضاً «الحرمان من الاحتياجات الأساسية»، والتي يعرّفها على أنها «حرية الفرد الدائمة في عيش حياة يستطيع من خلالها الشعور بتقدير قيمتها». ويضيف أمارتيا سين : لضمان هذه الحرية الاقتصادية -الاجتماعية، نحتاج إلى عكس مسار عقود من سياسات الخصخصة والتقشف، والاستثمار في قطاعات المنفعة العامة، كالتعليم والصحة والإسكان ورعاية الأطفال والمرافق العامة والغذاء.

وبصفتي مستشاراً في السياسة العامة لبيرني ساندرز الذي كان وقتها رئيساً للجنة الميزانية بمجلس الشيوخ، قمت في عام 2021، بقضاء ستة أشهر لمساعدة زملائي، في صياغة مسودة مشروع قانون «بناء أفضل» وتنقيحه والتفاوض بشأنه. وقد كنا نطمح لتحقيق إنجاز يتمثل في إبرام صفقة جديدة. لكن المشهد بدا وخيماً عندما تم خطة الإنفاق الأصلية التي بلغت قيمتها 6 تريليونات دولار على مدى عشرة أعوام، إلى 3.5 تريليونات دولار، ثم إلى 1.75 تريليون دولار، قبل أن يتم قتل الخطة في مجلس الشيوخ.

كانت ثمَّة نسخة قريبة إلى حد كبير من مشروع القانون هذا، وهو قانون خفض التضخم، الذي اتجه للاستثمارات التحويلية، ولكن جميع التدابير الأصلية تقريباً التي اتخذها برنامج «بناء أفضل» تم تجاهلها. لذا، لا بد من تجديد الالتزام بضرورة العمل مجدداً، ووضع جدول أعمال يمكن من خلاله الحدّ من الفقر بين الأطفال، ويضع الحياة في متناول يد الجميع.

*لقراءة المقال الأصلي في فاينانشال تايمز إضغط هنا

شاركها.