أكد أكاديميون ومتخصصون في التراث أن الموروث المحلي ليس بمعزل عن العالم، وأن التفاعل مع التحولات المتسارعة ضروري، ولكن دون الإخلال بالثوابت الثقافية والقيم الأصيلة التي تشكل جذورنا وآفاقنا القريبة والبعيدة نحو المستقبل، مثمنين ما توليه دولة الإمارات من اهتمام كبير بحفظ التراث المجتمع وصونه، وكذلك توظيف التقنيات الحديثة في خدمته، بما يجعلها من أفضل الأمثلة على إدارة الذكاء الاصطناعي وتوظيفه في هذا المجال. ودعوا، خلال مشاركتهم في الدورة الـ16 من المؤتمر الخليجي للتراث والتاريخ الشفهي الذي انطلق صباح أمس، تحت شعار «الممارسات الاجتماعية الخليجية المشتركة: تقاليد توحدنا وآفاق تلهمنا»، إلى تعزيز التعاون الخليجي العربي المشترك للحفاظ على التراث الثقافي غير المادي وصونه.

إرث جماعي

وأشار وكيل دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، سعود عبدالعزيز الحوسني، إلى أن المؤتمر يجسّد منصة حيوية تعزز جهود دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي في الحفاظ على إرثنا الاجتماعي المشترك في دول الخليج العربي، وحمايته، وتعزيزه كركيزة أساسية من هويتنا الجماعية. كما يعكس الحرص على إلهام الأجيال الحالية والقادمة بأهمية الارتباط بالأصالة والتجديد، واستغلال ما يزخر به التراث الثقافي من مقومات مشتركة، لاسيما الحرف والصناعات التقليدية، والممارسات الاجتماعية، وفنون الأداء والتعبير، والأدب الشعبي، لضمان صون تراث الآباء والأجداد، لافتاً إلى أن شعار هذا العام يجسّد الرؤية الحكيمة للقيادة الرشيدة للدولة التي تؤمن بأن قوة الأوطان، وأن العادات الاجتماعية المتوارثة هي الأساس المتين الذي يُبنى عليه مستقبل الأجيال، وأن هذا الالتزام الراسخ بالثقافة هو امتداد لرؤية الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي آمن بأن ثقافتنا هي هويتنا، وجسرنا نحو المستقبل.

وأضاف خلال كلمته في افتتاح المؤتمر الذي تنظمه الدائرة على مدى يومين في المجمع الثقافي بأبوظبي: «يعكس تنظيم هذا المؤتمر الدور الريادي الذي تضطلع به إمارة أبوظبي في تعزيز التعاون الخليجي العربي المشترك للحفاظ على التراث الثقافي غير المادي وصونه، وإبراز إسهامه في ترسيخ الهوية الوطنية المشتركة، ودعم منظومة التنمية الثقافية المستدامة في مجلس التعاون لدول الخليج العربية. ويهدف المؤتمر أيضاً إلى إبراز دور الممارسات الاجتماعية في ترسيخ الهوية الخليجية العربية المشتركة، وتعزيز قيم التعاون والتكافل، واستكشاف الوسائل المبتكرة للموازنة بين الحفاظ على الأصالة ومواكبة متطلبات الثقافة المعاصرة، بطريقة تضمن استمرارية الموروث الاجتماعي ونقلها للأجيال القادمة. كما يسلّط المؤتمر الضوء على دور المرأة الخليجية عبر العصور في الحفاظ على التقاليد والممارسات الاجتماعية ونقلها بين الأجيال، وإبراز مشاركتها الفعالة في جهود الحفاظ على التراث الثقافي وتطويره واستدامته».

التراث أداة متجددة

وأوضحت مدير عام إدارة الشؤون الثقافية والاجتماعية وشؤون الأسرة في منظمة التعاون الإسلامي، الدكتورة أمينة بنت عبيد الحجري، في كلمة الوفود الخليجية، أن التراث الثقافي بمختلف أنواعه ومجالاته، وتعدد مصادره، يعتبر انعكاساً للمستوى الحضاري لأي أمة أو المجتمع.

ولفتت إلى تميز دول الخليج العربي بتراثها الثقافي المتنوع والمتعدد، ما يمنحها طابعاً فريداً واستثنائياً، إلى جانب كون هذا التراث أداة للتلاحم الاجتماعي، ومصدراً فنياً واقتصادياً، وهو الذي أسهم إسهاماً واضحاً في تشكيل الواقع الاجتماعي لدول الخليج، بل يمكن اعتباره المكون الرئيس للثقافة الشعبية بتجلياتها المختلفة، مضيفة: «ومن خلال هذا الفهم، يمكننا أن نعتبر التراث أساس الهوية، ومفتاح الشخصية الجامعة لجميع دول الخليج، مع التأكيد على البعد الإنساني في تراثنا الخليجي، وأنه ليس بمعزل عن العالم وما صاحبه من تغيرات وتحولات اجتماعية متسارعة كبرى، فكان لابد من التفاعل معها دون الإخلال بالثوابت الثقافية والقيم الأصيلة التي تشكل جذورنا وآفاقنا القريبة والبعيدة نحو المستقبل».

ودعت الحجري إلى بذل المزيد من الجهود للاهتمام بالتراث، وتسخير آليات العرض الافتراضي وتقنياته، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي لحماية وإبراز ما يتميز به من تنوع وثراء.  

وثمنت المبادرة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بإعلان عام 2025 «عام المجتمع»، تحت شعار «يداً بيد»، وهو ما يعد تأكيداً على دور التراث في ترسيخ دعائم المجتمع، مشددة على ضرورة التعامل مع التراث باعتباره أداة متجددة وليس وعاءً ثابتاً، ومن هذا المنطلق فالتراث والعادات والتقاليد والفنون والموسيقى والموروثات الشعبية بكل مجالاتها لديها القدرة على التطور بما يتناسب مع روح العصر، والمواءمة بين الأصالة المتمثلة في التراث وثقافته، وبين المعاصرة المتمثلة في السباق نحو التجديد والتطوير والتغيير، ليكون هذا الموروث أداة قادرة على الصمود أمام التحولات الهائلة والعولمة، ويكون مكوناً قادراً على التكيف والتطور، كما يكون أداة للاستثمار الاقتصادي.

تقنيات حديثة

وعرض المشاركون في المؤتمر نماذج لمبادرات الوسائل المبتكرة للموازنة بين الحفاظ على الأصالة ومواكبة متطلبات الثقافة المعاصرة، بطريقة تضمن استمرارية الموروث الاجتماعي ونقلها للأجيال القادمة، فاستعرض مدير تقنية المعلومات في الأرشيف والمكتبة الوطنية، عبدالعزيز سالم العميم، تجربة المؤسسة في تطوير نظام متقدم للبحث في قواعد البيانات الداخلة عن الصور باستخدام الذكاء الاصطناعي، مثل تقنية الوجوه والصور المشابهة، وتقنية (nlaGPT) التي تم تطويرها داخلياً، وتشغيلها بالكامل دون اعتماد على خدمات سحابية خارجية، إلى جانب تقنيات حديثة للترجمة والتفريغ، وتطوير منصة التاريخ الشفاهي، مؤكداً أن التطور لا يمثل تهديداً لوظائف البشر، بل يسهّل لهم آلية العمل، ويوفر الوقت والجهد، وقد يخلق وظائف حديثة.

أخلاقيات عالمية

بينما تناولت مدير وحدة توثيق وتحليل البيانات بدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، الدكتورة أونا فيليكسيس، قضية مهمة في مجال التقنيات الحديثة، وهي القواعد الأخلاقية المنظمة لاستخدام الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة بشكل عام في مجال التراث، لافتة أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد خوارزميات، فإذا لم تكن هناك رقمنة للبيانات المتوافرة فلن يكون له فائدة.

محاور

تناول المؤتمر خلال جلساته عدة محاور، منها: الممارسات الاجتماعية في المجتمعات الخليجية العربية بين الجذور المشتركة والتنوع المحلي، والمناسبات والاحتفالات والفنون الأدائية ودورها في ترسيخ التماسك الاجتماعي وتعزيز الهوية المشتركة، والممارسات المتعلقة بالحرف والمهن التقليدية: إرث عريق وابتكار متجدد، والمرأة والممارسات الاجتماعية الخليجية: الأدوار التاريخية والرؤى المعاصرة، والممارسات الاجتماعية في عصر الرقمنة والعولمة: التحديات والفرص، وعام المجتمع 2025: الممارسات الاجتماعية كركيزة للتمكين والمشاركة المجتمعية في دولة الإمارات العربية المتحدة.

سعود الحوسني:

العادات الاجتماعية المتوارثة هي الأساس المتين الذي يُبنى عليه مستقبل الأجيال.

أمينة الحجري:

التقاليد والموروثات الشعبية لديها القدرة على التطور بما يتناسب مع روح العصر.

شاركها.
Exit mobile version