فرضت سطوة الممثل نفسها على عروض اليوم الثاني من مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما، وكان الأداء المتقن منطلقاً للدهشة، ولسرد حكايا عن أوطان وتواريخ ممزقة، وبشر يستعيدون، باستماتةٍ، إنسانيتهم وسط عالم تسكنه صراعات لا طائل منها.
بين مأساة فرد تلخص أزمة حياة كما في العرض الآتي من جورجيا «أغنيس زوجة شكسبير»، وأزمة تاريخ ووطن كما في عرض «ميا كولبا» من بوركينا فاسو، كان جمهور المهرجان أمام فرجة مبهجة، لعرضين كسرا تماماً حاجز اللغة، واشتبكا مع الجمهور بكل تنوعه ولغاته، وانتصرا لحكاياته التي وصلت بكل تفاصيلها من دون أي عائق.
أرواح من إفريقيا
عرض «ميا كولبا» الآتي من بوركينا فاسو، وهو خارج المسابقة الرسمية كان رحلة جمالية مبهجة، حكاية تجدل خيوط الجمال وتفردها بساطاً ممتعاً من الفرجة الغنية، بتفاصيل لم تتوقف طوال مدة العرض.
الفنان تشارلز نومويندي تيندريبيوغو الذي قرر أن يكون سيد عمله، مؤلفاً ومخرجاً وممثلاً، ارتحل في ذاكرة القارة السمراء الجريحة، لم يختر هذا الممثل أن تكون رحلته عابرة، بل حوّل الخشبة بأدوات فنية وبناء بصري متقن إلى مساحة لطقوس روحانية، انطلق منها إلى محاكمة، وصراع متبدل ومتجدد لم يتوقف للحظة واحدة مع الذات والآخر، وحتى المعتقد وصولاً إلى قوى لا عمل لها إلا قتل الروح الحرة في الكائن البشري. وعلى الرغم من مئات الأسئلة التي يطرحها ويحرضها عرض «ميا كولبا»، فإنه لا يقدم إجابات أو نصائح، بل يكتفي بكونها رحلة إبداعية، يتجاوز فيها الممثل الأداء العادي لمصلحة طقوسية تستدعي الذاكرة والمعتقد والسلطة والكثير من متاعب عقد الذنب.
لم يعتمد هذه الممثل البارع على كثير من الأشياء المساعدة، كان مسرحه فقيراً لا يحتوي سوى على أدوات بسيطة جداً، لأنه أراد للجسد المبدع والمثقف أن ينتصر ويروي الحكاية، وعبر تقنيات أدائية شديدة الصعوبة، مضى هذا الممثل في الرحلة مشتبكاً مع عقائد شعبية معقدة، ومع قوى ما ورائية، وكائنات أسطورية رمزية تتجسده، وتخترقه، ويتحرر منها. كنا في هذا العرض أمام تحولات وجدانية، وصراعات عميقة تقتحم جسد الممثل، ليصنع منها الفرجة التي ارتحلت وتنوعت، ولم تهدأ طوال فترة العرض، محركها أقنعة رمزية، وقصاصات ورق، وعجلات سيارة، استخدمها الممثل بإبداع لتأدية أدوار مرنة وغرائبية، وكان خطابه موجهاً بشكل دائم إلى شخص وهمي سمّاه «Mr. President».
تميّز العرض بجمال بصري مدروس، وإضاءة موظفة بمهارة، لتمنح قوة جسد الممثل ولياقته المزيد من الطاقة التعبيرية، إضافة إلى ذلك العمق الأسطوري والدلالي الذي لازم العمل.
لم يكتفِ نومويندي بنقل عوالمه من فوق الخشبة، بل مضى في لعبة تفاعلية مع الجمهور، وترجل عن الخشبة ليتفاعل بشكل مباشر مع الجمهور في لعبة ارتجالية جرئية، لكنها مدروسة لخلق تلك الشراكة، مخاطباً أفراد الصالة: «اهرب من الموت، الموت قادم»، يُتبعها برجاء مؤلم لا يخلو من الهزيمة: «هذا يكفي.. دعوني وحيداً»، لعلها هزيمة، لكنها في الوقت نفسه لحظة خلاص من رواسب وخرافات وقناعات مقدسة ومضللة.
عودة إلى شكسبير
في عودة إلى واحد من أسرار وليم شكسبير الخاصة وأكثرها جدلاً، ألا وهي قصته مع زوجته أغنيس، اختار العرض الجورجي المنافس في المسابقة الرسمية للمهرجان عرضاً بعنوان «أغنيس زوجة شكسبير»، لتقديم تجربة لافتة بكل ما فيها من أبعاد فكرية وإنسانية وتاريخية، العرض يحمل توقيع نينا مازور في التأليف، وإخراج أفتانديلفار سيماشفيلي، بينما تصدت للأداء الممثلة القديرة إيرينا ميجفينيتوخوسيسي، التي قدمت عرضاً باهراً وآسراً، استقطب الجمهور وامتلكه رغم حاجز اللغة الروسية.
تبدأ قيمة العرض من محاولته التصادم مع حكاية إشكالية لم تنكشف خيوطها حتى يومنا هذا في تاريخ وليم شكسبير، أو هي محاولة لإعادة بناء شخصية «أغنيس هاثاواي» وفق سرديات إبداعية جديدة، هي ترويها ولا تُقال عنها، فعلى مدار آلاف الدراسات التي تناولتها لم تكن هذه الشخصية يوماً ناطقة، بل قيل عنها وحولها الكثير، أما هنا فهي حاضرة لتقول ما يخطر في بالها، وبمعنى آخر تم نقل هذه المرأة من كونها في هامش شخصية كبيرة إلى كونها بطلة وفي صدارة المشهد، وهنا تكمن اللعبة والرسالة التي تشير إلى آلاف الهامشيين الذين لعبوا أدواراً عظيمة في مسيرة الشخصيات العظيمة.
ينطلق العرض من افتراض وسؤال، ماذا يمكن أن تقول زوجة شكسبير بعد صمت تاريخي طال شخصيتها وكيانها، تتحول أغنيس في العمل ليس شاهدة على عبقرية زوجها، بل صانعة فاعلة في إرثه الأدبي العالمي.
مع هذه الفرضية يقفز العمل من كونه يتحدث عن شخصية محددة إلى معاناة النساء على مر الأزمان، بكونهن صانعات صامتات لإنجازات كبيرة تصدرها الرجال من دون الالتفات إليهن، لكنها فرضية تنتصر للمرأة المُغيّبة، وينتقل اسم «أغنيس» من شاهد إلى بطل له حكايته الخاصة، أمام هذه الفرضية، وقفت الممثلة إيرينا لتخوض غمار تجربة بوحية مركبة، وتمشي على خط رفيع بين الهزيمة ومشاعر الانكسار والرغبة في التمرد ولسان حالها يقول: «هذه ليست أنا التي تعرفونها بالطريقة التي تريدون أنتم معرفتي بها».
حوّلت الممثلة مدة عرض العمل إلى متعة متكاملة، لحظات صمتها كانت تبوح أكثر من لحظات القول، حركات الجسد والحركة على الخشبة كانت تقول في كل تفصيلة الكثير من الأحاسيس والمشاعر المكبوتة وفق خطة بصرية شيّقة. لم تترك هذه الممثلة مساحة فارغة كان حضورها طاغياً وبليغاً في إيصال ما بداخلها من قهر وأسئلة.
وعبر سلسلة من المونولوجات العميقة، تقف أغنيس متحدية شكسبير الذي يتحول من صاحب هالة ومكانة كبيرة إلى شخص عادي متهم، وعليه أن يبرر ما لم يبرره يوماً.
يمضي العمل قدماً بمعية ممثلة متميّزة، ليتحول إلى محاكمة علنية للإلغاء سواء كان مصدره الفرد أو المؤسسة أو حتى أي كيان سياسي، وتتسع الدلالات إلى نقد البنية الثقافية التي تنحاز بشكل سافر إلى الرجل المبدع وصولاً إلى السؤال الجوهري، هل هناك مبدأ يمكن أن يكبر بمفرده من دون بيئة محيطة تتضمن الكثير من التضحيات التي لا يذكرها التاريخ. «أغنيس» في هذا العمل ليست زوجة شكسبير وحسب، بل هي رمز وتحية لكل امرأة عاشت وشاركت في صناعة أمجاد الآخرين بصمت.
. جمهور المهرجان كان أمام فرجة مبهجة، لعرضَين كسرا تماماً حاجز اللغة، واشتبكا مع الجمهور بكل تنوعه ولغاته.
. سطوة الممثل فرضت نفسها على عروض اليوم الثاني، وكان الأداء المتقن منطلقاً للدهشة، في حكايا عن أوطان وتواريخ ممزقة.