غزة – في خريف عام 2022، شرعت ولاء شُبلاق، المعمارية والفنانة البصرية، في جولات متأنية بين أزقة البلدة القديمة في غزة، تتنقّل بين القباب والأسواق والمنازل العتيقة، ترسم وتوثّق بعين فنية وحسّ إنساني.
كانت تسعى لأن تُخرج إلى النور كُتيبا يجمع بين السرد البصري والنصي، ليكون دليلا مرئيا يحفظ “ذاكرة المكان”، ولم تكن تدري أن الحرب ستباغتها قبل أن يكتمل حلمها، وتمحو بلهيبها ثمرة ما بذلته من جهد وعاطفة.
حصلت شُبلاق على منحة من وزارة الثقافة الفلسطينية لإصدار الكتيب الذي يحمل اسم “مسار ما تبقى لنا”، ويتضمن صورا للمواقع التراثية والأثرية في البلدة القديمة بغزة، برؤية فنية خاصة، تحافظ على روح المكان.
وتلفت المعمارية والفنانة الفلسطينية -في حديثها للجزيرة نت- إلى أن كُتيب “مسار ما تبقى لنا” بدأ كمشروع فني بحثي يهدف إلى تتبع أثر الوجود الإنساني داخل حدود البلدة القديمة، لتوثيق ما تبقى من معالمها كشاهد إنساني وتاريخي وثقافي، يحكي عن المدينة وسكانها وبُناتها عبر العصور.
ونبعت فكرة المشروع لدى شبلاق من خلال ارتباطها بذكريات طفولتها في بيت جدها لوالدتها (عبد القادر بسيسو)، وهو أحد البيوت الأثرية الفريدة بحي الشجاعية، كما كان لموهبتها في الرسم ودراستها لهندسة العمارة الأثر الأكبر في تعميق فهمها لفكرة أن العمارة الحقيقية يجب أن تحتوي الإنسان “جسدا وروحا”.
ومع تقدم العمل، اكتمل أكثر من 60 مشهدا فنيا، وبدأت شبلاق تتهيأ لجمعها في الكُتيب، قبل أن تندلع الحرب.
الحرب تهاجم المسار
في المراحل الأخيرة للمشروع، باغتت الحرب شُبلاق، فقد نزحت مرارا بين 4 منازل داخل غزة، ووضعت لوحاتها في “حقيبة النزوح” كما يفعل الآخرون مع وثائقهم الثمينة.
لكن النزوح الأخير، في فبراير/شباط 2024، بأحد منازل حي الرمال غربي غزة، رافقه حصار مروع استمر 9 أيام، وانتهى بتفجير المنزل الذي كانت فيه.
في تلك الليلة، فقدت شبلاق كل شيء: اللوحات، والحاسوب الذي يحتوي أرشيف الصور، ودفتر الملاحظات، والأوراق الرسمية.
وأجبر الاحتلال المعمارية والفنانة برفقة أسرتها على النزوح في منتصف الليل، سيرا على شاطئ البحر، باتجاه جنوب قطاع غزة.
ولكن شُبلاق لم تستسلم، ففي مكان نزوحها الجديد جنوب قطاع غزة أعادت تجميع ما تبقى من صور المشروع من أرشيف تطبيقات التواصل الاجتماعي، وبدأت تصميم الكتاب من جديد باستخدام هاتفها فقط.
رتبتْ الصور، كتبت النصوص، ودمجت اللوحات بالكلمات، حتى اكتمل الكتيب في نسخته الإلكترونية، من دون أن تستطيع طباعته ورقيا لظروف الحرب، ويجري العمل على ترجمته إلى لغات عدة.
يضم الكتيب مقدمة واعتذارا تسرد فيه مسار المشروع منذ بدايته حتى فقدانه وإعادة جمعه، ثم فصلا بعنوان “غزة تاريخ وأثر”، وفصل “الزمان والمكان” الذي يغوص في ذاكرتها البصرية، و”محطات” الذي يقود القارئ في مسار بين معالم البلدة، وختاما برسالة لأهل المدينة بعنوان: “وبعد، يا أهل مدينتي الطيبين”.
وتوضح شبلاق أن المختلف في هذا الكتيب هو أنه “يجمع بين جوانب التاريخ والأدب في السرد النصي، وبين الفن وملامح العمران الإنساني في الرسومات والصور”.

ضاع الرسم وزال المرسوم
تلقت شُبلاق صدمة كبيرة حين رأت صورا تُظهر أن معظم المواقع التي وثقتها لم يبق منها حجر على حجر؛ الجامع العمري الكبير، قصر الباشا، البيوت الأثرية في الزيتون والشجاعية، حتى الكنائس، جميعها دُمرت.
وتأمل المعمارية أن تنتهي الحرب قريبا، وأن يُشرع سريعا في إعمار المواقع الأثرية التي دمرها الاحتلال وترميمها.
وفي هذا الصدد تقول “بعدما رأيت صور الدمار، أدركت تماما مدى أهمية التوثيق الذي قمت به، بكافة التفاصيل التي استغرقت مني وقتا وجهدا، فهي كل ما تبقى لنا الآن كشاهد ودليل نستند إليه لنرمم ذلك الخراب”.
ورغم ما لحق بمدينتها من خراب، فإن شبلاق تحافظ على تفاؤلها بالمستقبل حيث ترى أن سكان غزة لا يخسرون لسببين، الأول: “أن أحدا لن يستطيع انتزاع هوية تجذّرت فينا تجري منا مجرى الدم، والثاني: أن أحدا لن يستطيع انتزاع ذاكرة المدينة التي حُفرَت فينا حفرا عميقا حتى حفظناها عن ظهر قلب ولو تمكن من تخريبها ظاهريا”.
وتختم قائلة “شأن العنقاء أن تنهض من ركامها، وأما نحن فلن نعدم الوسيلة لذلك، على خطى الأجداد نعاود السير، ومن مساراتهم الأصيلة نعاود الانطلاق من جديد”.

البلدة القديمة تحت الأنقاض
على مدى سنوات، عمل الباحث أيمن البلبيسي، مؤسس فريق “حكاوي غزة”، دليلا ومرشدا للمواقع التاريخية والأثرية بالبلدة القديمة بمدينة غزة، حيث كان يُنظم جولات أسبوعية تضم مهتمين وطلابا، وأجانب في بعض الأحيان، للتعريف بها.
وفي آخر جولة له في البلدة القديمة، قبل استئناف إسرائيل العدوان على غزة في 18 من مارس/آذار الماضي، فوجئ البلبيسي بأن 80% من المواقع الأثرية والتراثية التي كان يشرح تاريخها للمشاركين في مساراته الأسبوعية قد دُمرت بالكامل أو جزئيا.
ويعدّد البلبيسي في حديثه للجزيرة نت “أغلب المواقع من بيوت، قصور، مساجد، كنائس، أسبطة، أسبلة، مقامات، حمامات، أسواق، مقابر، دمروها بالكامل: حمّام السمرة، المسجد العمري، مسجد ابن عثمان، قصر الباشا، حتى المقابر القديمة مثل التوانسي ومقبرة حي التفاح، ومقبرة آل الحسيني”.
ويضيف “هذه مبان أثرية لا تعوّض، هي تاريخ البلد، عبر التاريخ كل القادة الذين فتحوا الشرق والغرب مروا من هذه المدينة”.
ويرى البلبيسي أن ما تفعله إسرائيل حاليا من تدمير للبلدة القديمة بغزة هو امتداد لما نفذته بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى عام 1917 حينما دمرت غزة بالكامل.

تخوّف من مخططات إسرائيل القادمة
يُبدي عاصم النبيه، عضو المجلس البلدي لمدينة غزة، قلقه الشديد حيال مخططات إسرائيل القادمة لمدينة غزة، وبخاصة البلدة القديمة فيها، حيث لا تخفي نيتها احتلال ما تبقى من المدينة وتدميرها بشكل كامل، على غرار مدينتي خان يونس ورفح، ومحافظة شمال القطاع.
ويضيف للجزيرة نت “الاحتلال دمر كل ما هو شرق شارع صلاح الدين، والآن وصل الدمار إلى منطقة الشارع والمناطق الغربية المحاذية له، والبلدة القديمة تقع على أطراف الشارع، وهناك تخوف كبير جدا من فقدان المرافق التاريخية والأثرية خاصة أن معظم المواقع التراثية في البلدة القديمة”.
ورأى أن الاحتلال يهدف إلى “طمس الهوية التراثية لمدينة غزة، ضمن عملية ممنهجة لجعلها غير قابلة للعيش”.

توثيق رسمي للدمار
ويوضح عضو المجلس البلدي عاصم النبيه أنهم غير قادرين حاليا على تقييم حجم الأضرار للمواقع التراثية في البلدة القديمة، نظرا لتعذر الوصول إليها بسبب الاستهدافات الإسرائيلية، لكنه قال إنها أضرار “هائلة”.
وتتحدث التقارير التي أحصت الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية عن مجمل الخسائر في القطاع، من دون التطرق بشكل خاص إلى البلدة القديمة لمدينة غزة.
وفي هذا الصدد، ذكر تقرير أصدرته وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، بداية العام الجاري، بالتعاون مع مركز حفظ التراث الثقافي، أن 226 موقعا أثريا في القطاع تضررت من أصل 316 موقعا تم حصرها.
وشملت المواقع المتضررة مساجد تاريخية، وكنائس، وقصورا، وبيوتا تراثية، وحمامات، ومقابر، ومشاهد ثقافية وطبيعية.
وبحسب التقرير، فإن من أبرز ما دُمر أو تضرر في البلدة القديمة بغزة:
- الجامع العمري الكبير.
- كنيسة القديس بيرفيريوس.
- جامع كاتب الولاية.
- مسجد عثمان بن قشقار.
- مسجد الظفردمري.
- قصر الباشا.
- بيوت أثرية مثل: دار السقا، دار الطرزي، دار العلمي.
- حمام السمرة.
- سبيل الرفاعية.