مفهوم “اللاوطن” كقيمة سالبة أو ربما كحقيقة مرة، يتجلى كالنذر المشؤوم، تتردد أصداؤه حيثما قلبتَ نصوص الأدب أو استنطقتَ معاجم الفكر. يستأثر هذا المفهوم باهتمام الفيلسوف والأديب، ولا يغيب عن قاموس السياسي أو حتى قاموس المهمشين. فالجماعة الإنسانية، بكل تناقضاتها الطبقية وتعددها الرمزي، تجد في فكرة “الوطن” مستقرا للمعنى والمبنى على حد سواء.

ويبدو أن المثقف العربي المعاصر، أكثر من غيره، قد انشغل بـ”الوطن”، تمجيدا حينا وهجاء في أغلب الأحيان. ولعل هذا الهجاء، وهذه المعاتبة المريرة للأوطان، قد استقرت في أدبنا الحديث كبديل ملح عن نصوص الحنين التقليدية. هذا التحول مرده، ربما، إلى التصاق “طبائع الاستبداد” بأوطاننا، وإلى فراغ هذه الأوطان من إرادة حقيقية للعناية بمواطنيها. وكأن رمزية الوطن قد تجردت من أثقالها القدسية، لتتشكل وفق شروط القائمين على مقدراته، فيغدو الوطن بذلك الوجه الصريح والمؤلم للدولة الوطنية العربية المعاصرة، وتصبح سيرته بين “عباد الله” هي ذاتها سيرة السلطة. فلم يعد حاكم الوطن بالضرورة عادلا، بل كثيرا ما بطش وتجبر، فسقطت عن صورته علامات القداسة، وأقيمت حولها، بدل ذلك، “مراسم التدنيس”.

قريبا من هذه المراسم الرمزية، تأخذنا قصة “النذر”، وهي إحدى أبرز قصص المجموعة التي تحمل العنوان ذاته، للأديب والباحث والإعلامي التونسي حسن مرزوقي، والحائزة على جائزة علي الدوعاجي للقصة القصيرة في المعرض الدولي للكتاب بتونس عام 2023.

لقد برع الكاتب في تدبير طرائق السرد، فاختار أن يحرم بطله من الاسم، ليس فقط ليحمله عبء وظيفة الراوي، بل لتأتلف في شخصيته بلاغة التخييل وقسوة الواقعي. وبهذا الائتلاف، يصبح البطل حكاية، أو ربما خرافة، أو حتى أسطورة عابرة للأزمنة، تلتقي في ترحالها بمن يشابهها أو يقاربها في المحنة. هكذا، تستحيل قصته في وجدان الإنسانية حكمة أو مهزلة، ولعلها ملحمة تختزل ضروب العذاب. أما “النذر” الذي قطعه بطلنا على نفسه، فقد أطلقه يوم احتفائه بخلاصه المأمول؛ الرحيل عن بلده. فدبر له “الرفاق” كنية تليق بمقامه الجديد: “أبو النذور”، وهو الاسم الذي سيصاحبنا في هذه القراءة المتعجلة.

قادت البدواة “أبا النذور” إلى أشد المهالك، حيث اجتمعت عليه قوة الأقدار بحكمتها القاهرة، وقوة الدولة بأجهزتها القامعة. عرف السجن وقضى فيه “أربعين يوما” على ذمة قضية سياسية. وما إن خرج من محنة السجن حتى تكفل القدر بمحنة أخرى أشد إيلاما: وفاة حبيبته “رحمة” في حادث سير، ليقرر الرحيل عن بلد يقع، في وجدانه، بين السجن والقبر.

منذ المستهل، يصدر حسن مرزوقي قصته بمدخل هو عتبتها الأولى ومفتاحها، يضعنا مباشرة أمام “النذر” ذاته، وكأنه لب الحكاية كلها. لكن هذا التصدير يهيئ بطلنا لرواية مقاماته الوجودية المعذبة في وطنه: “تذكر نذره.. فانقبضَ كعمود، واسترخى”. هذه الثنائية، الانقباض والاسترخاء، تبدو كأثر مباشر لسطوة النذر عليه، لكنها في العمق تعكس سطوة الذاكرة، وشتى أنواع الخراب التي تفشت في روحه.

في الطائرة، تتجول عيناه في ملامح وطنه من الأعالي، فيكتشف أن الوطن “المدرسي” الذي صورته له دروس الجغرافيا، ليس هو ذاته الذي يرى الآن شذرات منه من هذا “العلو”، ومن مسافة تمنح رؤية مختلفة ومجردة. فلا أثر للألوان الزاهية، ولا علامة على الثروات الموعودة: “ها هو اليوم يكتشف كذب الخريطة، وعري التراب.. لا نفط ولا بقر ولا بشر”.

إذن، من نافذة الطائرة تنطلق “مراسم التدنيس”، أو قل “مراسم الحقيقة الوطنية” العارية. تلك الوطنية التي سلبته كل براءة البدوي، ليجد نفسه متهما بالتستر على مطلوب بتهمة قلب نظام الحكم. تهمة هي الهلاك بعينه، أبقته في السجن 40 يوما. سجن عربي يختزل كل تاريخ السجون منذ ولادتها، تجتمع فيه “ثقافة العذاب” بكل تجلياتها، القديمة والوسيطة والحديثة، دونما تناقض.

كانت الـ40 يوما في السجن بمثابة معاقبة لسيرة البدوي فيه، هو الذي استقبل ابن قريته وأكرم وفادته، ليخرج من السجن وقد خرج من إنسانيته الأولى، كائنا بلا هوية، معطل الحواس: “تغيرت علاقتي بالشمس وبالشارع وبالشجر”. لقد تعرف على قوة الوطن وسطوته، وعلى طرائقه “الجمالية” في تطبيق الحقوق وإقامة “الحق”. وهل من بقاء لمن تعطلت علاقته بشمس بلده وشجره وشوارعه؟ وهو فوق ذلك معطل الروح بفقد “رحمة”، الحبيبة التي انتزعها القدر منه، كما تنتزع الحياة من الكائن.

“رحمة” في القصة ليست مجرد حبيبة، بل هي تجسيد للأمل والجمال، تأخذ البدوي في ترحاله أغنية أو عويلا. لكن بطلنا لا حظ له في الأغاني، فقد نحتَ بحمى السرد ليكون “أمثولة” في الخيبة. وما من خائب أشد مرارة ممن فقد العشق والمعشوقة. هكذا يتلقف “الموت” رحمة بأمر الأقدار، لتجتمع في صاحبنا كل أسباب الرحيل والهجرة القسرية.

هل النذر هو القصة كلها؟ وهل تحقيقه هو اكتمالها وبلوغها السردي في العالمين؟ هل سيرة السجن وآلامه، وموت “رحمة” وتداعيات الأحزان، كلها دروب تفضي إلى النذر؟ لعل النذر في ماهيته علامة فارقة في “مراسم التدنيس” تلك. فالنذر، حين إعلانه والتعهد به، كان بمثابة بيان ثوري، أطلق أمام جماعة من المتعبين، المغلوبين، الذين طالتهم كل آلات التشويه الوطنية.

للنذر في مخيالنا الجمعي مكانة ترتبط بالمقدس، وما من إنسان إلا وله في حياته نذر ما. فهل يشترط في النذر بالضرورة أن يحمل قصدا مقدسا؟ للكاتب وللقصة رؤية مغايرة، فنذر بطلنا من طين “المدنس”؛ لقد نذر أبو النذور أن يتبول على الوطن: “اسمعوا أيها الكلاب، سأقدم لكم جميلا، وعدوه نذرا نذرته.. قل يا أبا النذور.. أعدكم أني سأبول على هذا الوطن”.

يغادر صاحبنا أبو النذور حالة الانقباض، ويتجه إلى حمام الطائرة ليبر بنذره: “بال وأطلق زفرة تشبه الشر.. لقد وفى بنذره”. استرخى، وكأنه بهذا الفعل قد انتقم من سجنه وسجانه، ومن الموت ومرارة فقدان “رحمة”، ومن كل الذين دفعوه إلى الرحيل، وانتقم لرفاقه وأخلائه. غير أن وسواسا قهريا يقيم في الحكاية، يمنع عنها فرحة الانتصار الكامل. يأخذه الوسواس إلى السؤال عن الأرض التي تحلق فوقها الطائرة، ليأتيه الجواب القاطع من المضيفة: “لقد تجاوزنا الحدود الإقليمية منذ ربع ساعة. نحن الآن خارج الحدود”. نذر إذن تعثر في تحقيقه، وألقى بأحماله خارج حدود الوطن المنشود بالتدنيس.

إن قصة “النذر”، بترحلها السردي ودورانها المحوري حول “علامة النذر”، هي تدبير سردي محكم، ورؤية عميقة في ماهية النص القصصي وقدرته على إخفاء “قواعد لعبه”، وكأنه يحمل في طياته “الضياع” كقيمة وكمآل. ضياع القراءة في تعدد تأويلاتها، وتأرجحها بين مقاصد القصة المتعددة. “ولنا في القصة ومن همومها الكبيرة الخروج عن الحدود”، هذا الخروج الذي قد يصبح حياة أخرى، وإبداعا لكائن جديد، ولوجود مختلف. ألا تحمل “الحدود” في دلالاتها رمزية الثبات، والمحافظة، والطاعة العمياء؟ ومن الحدود تتفرع رمزيات شتى: حدود الأوطان، وحدود الفقهاء، وحدود الأخلاق، وحدود المعنى. وكل خروج عنها، ليس بالضرورة إثما أو جريمة. لعل الخروج عن الحدود هو ذاته مغادرة الأجوبة السائدة، وميلاد السؤال والأسئلة. وهكذا يكون الأدب، في جوهره، فعلا “خلاقا”.

شاركها.
Exit mobile version