تحل الذكرى الـ21 لرحيل الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان (1917-2003) وفلسطين تغالب المحتل وتواصل غزة صمودها، في ظل ظروف إقليمية ومواقف دولية باهتة لم تتمكن بعد من إيقاف العدوان على الرغم من دخوله عامه الثاني.
وقد شهدت فدوى طوقان (سنديانة فلسطين) أحداثا جساما على الصعيد الفلسطيني شملت النكبة عام 1948 وصولا إلى نكسة يونيو/حزيران 1967 وما بعدها، مثلما شهدت الانتفاضة الأولى 1987 والثانية عام 2000، وقد عاشت تحت الاحتلال وصورت حياتها وحياة شعبها في صموده ومعاناته بنبرة مختلفة تخلط الذاتي بالموضوعي وتكشف عمق المأساة التي حلت بالشعب الفلسطيني.
اقرأ أيضا
list of 2 items
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، والمنافي أوجدت جيلا فلسطينيا مبدعا
“طفولة بلا مطر”.. سيرة أكاديمي مغربي بين شفافية الوصف ورومانسية الاسترجاع
end of list
وقد تركت فدوى 8 دواوين شعرية وسيرة ذاتية في كتابين، إضافة إلى كتابها المبكر “أخي إبراهيم”، وعلى مدى عقود طويلة أسهمت في مسيرة الشعر الحديث، لتكون الصوت الأنثوي البارز الذي ظل يعبّر عن صموده وكفاحه وهمومه، في رحلة كشفت الشاعرة الراحلة عن كثير من صعوباتها وإخفاقاتها في السيرة المؤثرة التي لم تفارق البوح والاعتراف في أكثر سطورها، فظلت أنفاسها تكشف عن المخبّأ، وعما كانت المرأة العربية تكتمه وتخفيه، لعل بوحها يكون درسا آخر، أو لعله يخفف المعاناة التي ظلت مؤثرة في نفسيتها وتكوينها، ويكون فيها بعض الدروس للأجيال العربية الجديدة.
إعلان
حكاية الوردة الطائشة
في سن صغيرة لا تجاوز الـ12 أُخرجت فدوى من المدرسة التي تحبها بسبب وردة طائشة من صبي في الـ16 من عمره، وكما تروي تلك الحادثة في سيرتها “كان غلاما في الـ16 من العمر، ولم تتعد الحكاية حدود المتابعة اليومية في ذهابي وإيابي، فما كان لمثلي أن يزوغ يمينا أو شمالا، كانت الطاعة من أبرز صفاتي، وكنت مسكونة دائما بالخوف من أهلي، كان التواصل الوحيد الذي جرى لي مع الغلام هو زهرة فل ركض إليّ بها ذات يوم صبي صغير وأنا في طريقي إلى بيت خالتي، ثم حلّت اللعنة التي تضع النهاية لكل الأشياء الجميلة”.
المهم أن زهرة الحب ودهشته الأولى كادت تغير مجرى حياتها، بل ربما غيرتها بالفعل، فقد كانت العقوبة إقامة جبرية في البيت وإخراج من المدرسة وهي لم تزل في السنة الدراسية الخامسة، ولكن كثيرا من الحوادث بمقدار ما تسببه من انكسار فإنها تعمق الاستعداد للمواجهة، وإذا ما أضفنا جملة الضغوط الاجتماعية وآثار القمقم الاجتماعي فيبدو أن الاتجاه إلى الشعر قد تولّد كنقيض لتلك التعاسة، أو كرد جمالي على الإهمال وعلى القسوة ووجوه المعاناة.
في سيرتها تشير فدوى إلى تفكيرها بالانتحار، أن تحرق نفسها أو تتناول السم، لكن الخوف من الألم الجسدي منعها، وكان أن اعتادت الانكفاء على النفس والغياب داخل الذات، ولعلها لم تخرج من ذلك الانكفاء إلا بعد عقود من الشعر، ولم يظهر ذلك إلا بعد عام 1967 في ديوانها الرابع الذي حمل اسم “الليل والفرسان”.
إبراهيم الأخ والمعلم
واجهت فدوى الحصار والقهر الاجتماعي مما توقفت عنده طويلا في سيرتها، لكن وجود أخيها الشاعر إبراهيم طوقان (1905-1941) هو ما فتح أمامها طريق الخلاص، فمثّلت عودته من بيروت عام 1929 حدثا مهما في حياتها، “لقد كان إبراهيم المصح النفسي الذي أنقذني من الانهيارات الداخلية” هكذا تقول عنه، وهو الذي دلها أول مرة على كتاب لأبي تمام، وفسر لها قصيدة قالتها امرأة عربية هي أم تأبط شرا الصعلوك في رثاء ابنها، كأن ذلك الخيار الأول لم يكن عبثا ولا مصادفة، لأنه يفتح قلبها وروحها على إمكانية أن تبدع المرأة أو الفتاة شعرا جميلا، وأن الشعر ليس مقصورا على الرجال، ومنذ ذلك الوقت في سن الـ13 تشطب عن دفترها معلومات المدرسة التي فارقتها وتكتب معلومات جديدة:
إعلان
الاسم: فدوى طوقان، الصف: شطبت الكلمة وكتبت بدلا منها (المعلم): إبراهيم طوقان، المدرسة: البيت.
وهكذا كان إبراهيم معلّمها الأول ودليلها إلى الشعر واللغة، وحتى عندما غادر مجددا إلى بيروت كانت رسائله لا تنقطع، وكان يتابعها، ويكلفها بالقراءة، ويرسل إليها كتبا محددة، يعلق على قصائدها ويصحح لها، وهكذا مع هذه الأحوال وجدت طريقها أو حدست به “أصبح المستقبل هو كل الزمان بالنسبة لي”، فاستعاضت به عن الماضي الطفولي بشقائه وقمعه، وكذلك عن الحاضر القاسي الذي ليس إلا استمرارا لمجتمع الحريم وقمقم البيت.
وقد فجعت فدوى بإبراهيم في شبابه، فقد رحل عام 1941 في قمة شبابه، وقبل أن يتاح له أن يحصد كل ما وعدت به موهبته الشعرية والأدبية المتفوقة، وكتبت عنه كتابا مؤثرا بعنوان “أخي إبراهيم” نشر أول مرة عن المكتبة العصرية في يافا عام 1946، جعلته ضربا جديدا من الرثاء يجمع بين الحديث عنه وتفسير خلفيات شعره وما وراء عدد من قصائده المهمة.
ويشير الكتاب إلى عمق الصلة بين فدوى وأخيها بصفته الأسرية القريبة وبصفته الشعرية النادرة، فهي تعرف الكثير من التفاصيل التي تتصل بذلك الشعر، وتعرف خفايا القصائد وأسباب قولها أو نسجها مما لا يكاد يعرفه الآخرون، ولذلك فليس هذا الكتاب وقفا على الرثاء أو التعبير العاطفي، بل فيه الكثير مما يشكل مدخلا مهما من مداخل دراسة إبراهيم طوقان وتجربته الشعرية المتميزة.
النزعة الذاتية في شعر فدوى
تشير سيرة فدوى بعمق إلى أسباب طغيان النزعة الذاتية في شعرها، إنها ليست خيارا فنيا اتجهت إليه، بل هي السبيل الوحيد الذي تناسب مع وضعها ومع ما عاشته في حصارها وفي بعدها عن الجماعة بكل معنى، لم يكن لها نشاط جماعي بالمعنى الطبيعي للكلمة، فكانت عزلتها إجبارية، وكانت خياراتها قليلة.
ومع أن إبراهيم قد وجهها إلى الشعر الكلاسيكي وقد أتقنت نظمه والتدرب عليه إلا أنها لم تشعر بقربها النفسي منه، وحين كان يحدثها إبراهيم عن الاتجاه للشعر الوطني كانت تقتنع بعقلها، لكن وجدانها لا يطاوعها، إذ تجده مكبلا لا يزال، ولذلك لم تكتب شيئا ذا بال في مرحلة التمرين الشعري، ولعلها ظلت كذلك إلى أن التقى ميلها الفطري وتكوينها النفسي بمقالات محمد مندور عن الشعر المهموس ومدرسة شعراء المهجر، وما صاحب ذلك من تعرّفها إلى شعر مدرسة أبولو ومراسلتها علي محمود طه، فوجدت أن نزعتها أقرب إلى هذا المنزع وإلى ذاك الشعر، وهكذا بدأت توظف خبرتها ومقدرتها في التعبير عن هموم الذات وعن عزلتها، كأنها تتحصن ببوحها الشعري من مخاطر تلك العزلة ومصاعبها.
إعلان
خصوصية الصوت النسوي
ظلت فدوى طوقان رومانسية النزعة ذاتية بصورة شبه فطرية في أعمالها الأولى “وحدي مع الأيام”، “وجدتها”، “أعطنا حبا”، “أمام الباب المغلق”، وعلى الرغم من المعجم الرومانسي شديد الوضوح فإن طبيعة اللقاء بين التجربة الذاتية والمذهب الأدبي خلقا نمطا واضحا من خصوصية الصوت الشعري الأنثوي، فقد اعتاد القارئ العربي على الشاعر الرومانسي/ الرجل، وجاء صوت فدوى طوقان ليكون صوتا هامسا تخبئ رومانسيته أثقالا اجتماعية وضيقا حقيقيا من قمقم الحريم ومن حصار المجتمع التقليدي، ولذلك بدا نزوعها نحو الحرية بصيغتها الرومانسية نزوعا صادقا نابعا من التجربة.
وفي هذه المرحلة نجد معجم الطبيعة يهيمن على تعبير فدوى، عالم الفراش والأشواق والليل والتهويم والسماء ومفردات الطبيعة وفصول السنة.
وفي قصيدتها الأولى من ديوانها “وحدي مع الأيام” نجد شكل القصيدة المتوازن في إيقاعه وموسيقاه، لكنها مالت إلى تنويع القوافي على نحو ما أعجبها في الشعر الهجري وشعر مدرسة أبولو، ذلك الشعر الذي تجاوب معها أكثر مما حاول إبراهيم أن يوجهها إليه من قبل في تلك القصيدة التي حملت عنوانا رومانسيا دالا هو “مع المروج”، تقول فدوى.
هذي فتاتك يا مروج، فهل عرفتِ صدى خطاها
عادت إليك مع الربيع الحلو يا مثوى صباها
عادت إليك ولا رفيق على الدروب سوى رؤاها
كالأمس، كالغد، ثرّة الأشواق.. مشبوباً هواها
وتختتم القصيدة نفسها بالمقطع التالي:
أوّاه، لو أفنى هنا في السفح، في السفح المديد..
في العشب، في تلك الصخور البيض، في الشفق البعيد..
في كوكب الراعي يشع هناك، في القمر الوحيد..
أواه، لو أفنى، كما أشتاق، في كل الوجود!.
تبدو الطبيعة هنا طبيعة حية وموطنا لحرية الشاعرة، إنها الحضن الحنون الذي تلتجئ إليه في ظل العزلة وغياب الرفيق.
أما الرغبة في الفناء فلعلها أقرب إلى فناء المحب في المحبوب، مما يعرض للرؤى الصوفية، إنه مطلق الحب ومطلق التحرر الروحي، وعلى هذا النحو من الالتجاء للطبيعة ومن الاحتماء بها مضت فدوى ترسم ملامح دربها الشعري.
فدوى ورياح التجديد الشعري
ومن ناحية الشكل الشعري، نجدها تبدأ بالأشكال المتحررة التي ظهرت ضمن مكتسبات الرومانسية في تنويع القوافي وفي أشكال من تنوع الأوزان والشكل القريب من الموشح وما يشبه ذلك، وعندما هبت رياح التغيير والتحرر مع بدايات قصيدة التفعيلة وجدت فدوى نفسها تتجاوب مع رياح التجديد، خصوصا أن شاعرة امرأة هي نازك الملائكة في قمة المجددين والمدافعين عن الشعر الجديد، ومن مظاهر مبادرة فدوى نحو شعر التفعيلة منذ بداياته ما كتبته في أغسطس/آب 1953 بمجلة الآداب، فقد أسهمت بمقالة قصيرة تحمل عنوان “التمرد على البيت”، وهي بما قصدت إليه من هذه العنونة الدالة كأنما أرادت أن تماهي بين بيت الشعر التقليدي والبيت العربي الذي سجنت فيه المرأة طويلا، ومما قالته في تلك المقالة:
إعلان
“إني مع القائلين بوجوب تحرير الشعر من قوالب الأوزان والقوافي، إن التمرد على البيت المستطيل المتساوي التفاعيل في الصدر والعجز يفسح للشاعر آفاقا أرحب للتعبير الصادق، فإن حشر الخلجات والمعاني في خط محدود من التفاعيل لا تحيد عنه، كثيرا ما يرغم الشاعر على إخضاع هذه الخلجات والمعاني لعبودية الوزن الرتيب في أبيات القصيدة، وإزاء هذه العبودية لا يمكن للشاعر أن يعبر بإخلاص عما كان يريده، فلا بد من حشو أن نقصان”.
وتشير فدوى في المقالة ذاتها إلى الموسيقى الداخلية، تلك الموسيقى التي ظلت رفيقة شعرها كأنها قد استمدتها من إحساسها العميق باللغة والتعبير العربي ومن تدربها الشقي على العود كلما اختفى الرجال من البيت، تقول “كما أنني أحبذ الانتقال من وزن إلى آخر في القصيدة المطولة ذات السرد القصصي، لأن تنويع الوزن ينقذ الموسيقى الخارجية للقصيدة من رتابة النغم الطويل الممل، وهناك من يعيب هذا الاتجاه باعتبار أنه يؤثر على وحدة القصيدة أو يشيع النشاز في موسيقاها”.
وقد مالت فدوى إلى شعر التفعيلة من ناحية الشكل، وضمنّته بوحها وصوتها المشبوب بالحب والأسى، وفي ديوانها الرابع “أمام الباب المغلق” نجدها تكيف هذا الشكل مع تجربتها الذاتية أكثر من أي وقت مضى، خصوصا مع تجربة إقامتها المؤقتة في إنجلترا، وإطلالها على العالم الحر المنطلق بشكل فعلي، لكن موت شقيقها نمر طوقان في حادث طائرة كان حدثا قاسيا عليها في غربتها، وقد كيّفت شكل الرثاء مع شكل الشعر الجديد مثلما ضم العمل نفسه قصائد في الحب تسري فيها أنفاس الأنوثة والرغبة في النجوى، إضافة إلى قصيدة استلهمت فيها ملامح لوحة فنية، ورسمت فيها مقدرتها على الاتصال بالإبداع في اللون والخط وتحويلهما إلى قصيدة.
وهي في هذا السعي لتلوين تجربتها بما هو جديد كانت تتبع حاسة الحرية، وتحاول أن تفك أسر العزلة عن ذاتها المخنوقة، تلك الذات التي خرجت منذ نكبة فلسطين من عالم الحريم وقمقم المجتمع، مع تفسخ الطبقة البرجوازية وتفكك نظامها، لكن آثار تلك العزلة لم تزل ماثلة في روحها ونفسها.
إعلان
التحول إلى الهموم الجماعية
أما التحول إلى الهم الجماعي بصورة فعلية كتحول متجاوب مع قناعة الذات ورضاها فقد تأخر حتى عام 1967، وكأن تلك الروح القلقة احتاجت إلى نكبتين كي تنسى همها وتذوب في الجماعة، وربما تكون قصيدتها “لن أبكي” التي كتبتها بعد لقائها مع محمود درويش وسميح القاسم في مارس/آذار 1968 هي أوضح صورة دفعتها دفعا صادقا إلى الإحساس بالهم الفلسطيني العام، وكان صوتها صادقا واضحا:
أحبائي مصابيح الدجى، يا أخوتي في الجرحْ..
ويا سرَّ الخميرة يا بذار القمحْ
يموت هنا، ليعطينا
ويعطينا
ويعطينا
على طُرْقاتكم أمضي
وها أنا بين أعينكم
ألملمها وأمسحها دموع الأمسْ
وأزرع مثلكم قدميّ في وطني
وفي أرضي
وأزرع مثلكم عينيَّ
في درب السّنى والشمسْ
وقد صارت تلك القصيدة أثرا فلسطينيا وعربيا حيا، حفظتها الأجيال في صورة خروج من الحزن الفردي إلى الصمود الجماعي، وعلى الرغم من أنها مكتوبة بضمير المتكلم الذي يحيل إلى الذات وإلى الشعر الغنائي فقد مثلت انتماء الذات إلى الجماعة والتصاقها بها التصاقا صادقا متفجرا.
وفي الفترة نفسها نجد محمود درويش يكتب لفدوى “يوميات جرح فلسطيني” في صورة رباعيات مهداة إليها، وهي من القصائد الخالدة لدرويش، والتي ربما دفعت فدوى إلى مزيد من الانتماء إلى الأفق الوطني الجماعي، واللافت هنا أن درويش وشعراء المقاومة الذين يصغرون فدوى بسنوات عديدة هم الذين أثّروا فيها، إذ رأت في تجربتهم وشعرهم وحياتهم عناصر غائبة عنها وعن شعرها، فذهبت نحو خياراتهم، وتمكنت من اكتشاف صوتها الجمعي، ومن رباعيات درويش:
لم نكن قبل حزيران كأفراخ الحمام
ولذا لم يتفتت حبنا بين السلاسل
نحن يا أختاه من عشرين عام
نحن لا نكتب أشعاراً ولكنا نقاتل
واعتزازا بهذه الرباعيات ضمّنتها فدوى أعمالها الشعرية بعد قصيدتها “لن أبكي” كأنها تعدها قسيما أساسيا من تجربتها هي، وليس تجربة درويش فحسب.
إعلان
وامتدادا لهذه التحولات نشرت فدوى ديوان “الليل والفرسان” الذي صدر عام 1969، وهو الديوان الذي حمل قصائد التحول، فكتبت شعرا في المقاومة وعنها، وأنشدت للفدائيين، وسجلت الآهات والآلام الفلسطينية أمام شباك التصاريح وغير ذلك من مشاهد الاحتلال وآثاره في الحياة الفلسطينية، وقد استمر حضور الهاجس الوطني في أعمالها التالية “على قمة الدنيا وحيدا”، “تموز والشي الآخر”، “اللحن الأخير”.
فدوى رائدة السيرة النسوية
كتبت فدوى طوقان سيرتها الذاتية في كتابين أو جزأين: الأول بعنوان “رحلة جبلية.. رحلة صعبة”، والثاني “الرحلة الأصعب”.
ويشتمل الجزء الأول على حياتها منذ بدايات الطفولة مرورا بمراحل النشأة والتكون، وصولا إلى عام 1967، العام الفاصل في حياة الشعب الفلسطيني وحياة فدوى نفسها.
وعلى الرغم من أنها مرت بتجربة عام 1948 (عام النكبة المزلزلة وما سبقه من أحوال وأهوال) فإن أثرها ظل متواريا أمام ضباب الذاتية وتأثيرات العزلة، وإذا كانت للنكبة من حسنات فإنها قد فككت المجتمع التقليدي الذي حبس أنفاس الشاعرة ودفعها إلى الجدران المغلقة، فاحتاجت إلى زمن طويل من حرية الشعر كي تفيء إلى العلاقة الطبيعية بين الذات والمجتمع، ومع أن في بعض دواوينها الأولى محاولات للتعاطف مع اللاجئين كما في قصيدة “مع لاجئة في العيد” وقصيدة “رقية” وغيرهما فإن تلك القصائد ظلت في إطار التعاطف الفردي الرومانسي، ولم تتحول إلى صيغة جماعية من الثورة أو الصمود أو المقاومة.
وما تشف عنه سيرة فدوى بجزأيها ذلك النفس الأنثوي من البوح العميق ومن الصدق الشفاف، مع الوعي بتشكلات الذات والمؤثرات الفاعلة فيها، خصوصا فترة التدرب على الشعر، وأثر شقيقها إبراهيم في حياتها، وما مثّله الشعر من نافذة مدهشة انتشلتها من عذابات الواقع وإحباطاته.
وسيط بين ديان وعبد الناصر
اتسمت سيرة فدوى بتلك اللغة المعبأة بالمؤثرات الشعرية وبظلال البوح، بحيث بدت في صورة سرد متدفق لم تقطعه حتى نصوص الرسائل التي وردت في بعض الفصول كما لو أن فدوى قد تحررت من كل عناصر الكبت القديم ووجدت حريتها في الكتابة، ففاضت في صورة اعتراف حميم يقوي الذات في الوقت الذي يعرّيها ويكشفها.
إعلان
ولم تخلُ السيرة من جرأة بعيدة عن الاستعراض، لكنها قريبة من التبرير، وهو أمر من مألوفات السيرة بعامة، من مثل سردها اللقاء الذي جمعها مع وزير الحرب الإسرائيلي موشيه ديان، وقد أرجعت تورطها في اللقاء إلى طبيعة الخجل وعدم الميل إلى المواجهة والحسم على الرغم من رفضها في أعماقها مثل هذا اللقاء.
وكما تقول في سيرتها “الرحلة الأصعب” تعليقا أو تبريرا “مصيبتي الكبرى هي هذه الطبيعة الخجول، وهذا العزوف الغريزي عن اتخاذ المواقف التي قد توهم الآخرين ممن لا يعرفوني على حقيقتي بأنها مواقف استعراضية بهدف لفت الأنظار، هل أعاند وأصر على رفض الدخول إلى المنزل؟ أوليس في هذا ما يحرج رئيس البلدية؟”، وهي تمضي في سردها للحادثة، فتكشف عما دار في ذلك اللقاء، وطلب ديان منها أن تنقل رسالة إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
وفي فصل تال تسرد حادثة لقائها بعبد الناصر، ثم تروي ما دار في لقائها مجددا بديان وسؤاله لها عما دار في لقاء عبد الناصر، وقد استشهدت برواية ديان نفسه، وتصحح ما ورد في روايته، كأنما لتبرئ نفسها من أي تأويلات أو إشاعات.
ورغم ذلك فلم يسلم الأمر من سوء التأويل وبعض الروايات المخالفة لرواية فدوى، فرئيس المخابرات الإسرائيلي الأسبق يعقوب بيري مثلا في كتابه “القادم لقتلك” يقول “أحيانا كنت أزور الشاعرة الوطنية فدوى طوقان ولم أكن (الإسرائيلي) الوحيد الذي يدخل منزلها، فقد كان وزير الدفاع موشيه ديان يشمل تقريبا في كل جولة له في نابلس زيارة إلى بيتها ويجري معها محادثات طويلة”، ورواية فدوى تميل إلى التقليل من مثل هذه اللقاءات، بحيث تحصرها في لقاءين فقط، أما اللقاءات المحتملة الأخرى فلم تشر إليها ولا إلى طبيعتها، فماذا يريد وزير حرب في دولة الاحتلال من شاعرة معروفة بوطنيتها والتصاقها بشعبها؟!
رحلة فدوى رحلة شاعرة عربية، لعلها مع نازك الملائكة أبرز صوتين في الشعر النسوي العربي على الإطلاق، ولكن فدوى وإن لم يتح لها أن تتعمق كنازك في قضايا الشعر ومشاغله ونقده ولم يتح لها أن تكمل تعليمها فإنها تميزت باتصال تجربتها الشعرية، وبتعلمها الذاتي الذي ملأ نفسها ثقة وانطلاقا، فظلت وفية للشعر الجديد، في حين ارتدت نازك عنه رغم دورها التأسيسي المؤثر.
إعلان
وإذا كانت الذاكرة العربية لا تخلو من أسماء نسوية شعرية فإن تلك الأسماء ظلت مرتبطة بقصائد مفردة، أما أن تقف امرأة حياتها على الشعر فأمر نادر تميزت به فدوى، ابتداء من “وحدي مع الأيام” وحتى ديوانها الأخير “اللحن الأخير” الذي أتمت به 8 دواوين شعرية، لتغيب بعده بسنوات قلائل بعد أن خلّفت إرثا شعريا خالدا سيظل موردا لقراء الشعر، ليروا فيه تجربة فريدة من تجارب شعرنا العربي الحديث، بل والأكثر فرادة في مجال الشعر النسوي الذي يبدو إنتاج فدوى طوقان إنتاجا شديد القوة في مجراه منذ شعر الخنساء وحتى الشعر النسوي الراهن.