بوفاة الخطاط التركي الكبير حسن جلبي، في نهاية فبراير/شباط الماضي، فقد العالم الإسلامي أحد أبرز رواد فن الخط العربي المعاصر حيث رحل تاركًا إرثًا فنيًا وتعليميًا سيظل ملهمًا للأجيال القادمة من الخطاطين والفنانين.
وولد “رئيس الخطاطين” عام 1937 في قرية إينسي بقضاء أولتو في أرضروم، ونشأ في بيئة دينية حيث حفظ القرآن الكريم مبكرًا. في عام 1954، انتقل إلى إسطنبول لتلقي التعليم الديني، ودرس اللغة العربية والعلوم الإسلامية في مدرستي أوتشباش وتشينيلي.
بدأ مسيرته المهنية كمؤذن في مسجد أسكودار مهرماه سلطان عام 1956، ثم أصبح إمامًا في مسجد نصوحي محمد أفندي بعد أدائه الخدمة العسكرية.
اهتمام جلبي بالخط العربي بدأ منذ صغره، إذ كان يقلد اللوحات الخطية في مسجد قريته. وبعد انتقاله إلى إسطنبول عام 1963، سعى للتتلمذ على يد كبار الخطاطين. بدأ دراسته الرسمية للخط في 1964 تحت إشراف حامد أيتاج، بعد فترة قصيرة من التعلم مع حليم أوزيازيجي.
لاحقًا، درس خطي التعليق والرقعة على يد كمال باتاناي، مما ساهم في صقل مهاراته بشكل كبير. حصل على إجازته في خطي الثلث والنسخ من حامد أيتاج عام 1975، وفي خطي التعليق والرقعة من كمال باتاناي عام 1981.
تميزت مسيرة جلبي بإنجازات بارزة، منها تعيينه لكتابة النصوص لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة (1981)، وتكليفه بصيانة النصوص في المسجد النبوي بالمدينة المنورة (1983). أقام معرضه الشخصي الأول عام 1982 في مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (IRCICA) بإسطنبول، تبعته معارض في كوالالمبور وعمّان.
من أبرز أعماله: كتابات قبة جامع السلطان أحمد المجددة، وقبة جامع خرقة شريف، ونصوص في مسجد الجمعة ومسجد القبلتين والمسجد النبوي. كما نفذ كتابات لمركز الطب الإسلامي بالكويت ومساجد في أوروبا وأفريقيا وآسيا.
واصل جلبي تدريس الخط منذ 1976، مانحًا الإجازة لعشرات الطلاب من مختلف أنحاء العالم. شارك في تحكيم مسابقات الخط الدولية، وحصل على جائزة خدمات الفن من وزارة الثقافة التركية عام 2008 تقديرًا لإسهاماته الفنية المتميزة.
استخدم جلبي عدة أنواع من الخطوط العربية، ونال ومنح إجازة في بعضها، مثل:
هو أحد أصعب الخطوط العربية وأكثرها جمالًا وتعقيدًا. يتميز بأحرفه المتداخلة والممتدة، ويُستخدم عادة في كتابة العناوين والزخارف في المساجد والمخطوطات. حصل حسن جلبي على إجازة في خط الثلث من أستاذه حامد أيتاج عام 1975.
يُعرف بوضوحه وسهولة قراءته، وهو الخط المستخدم في طباعة المصاحف والكتب. يتميز بحروفه المتناسقة والمستقيمة، وهو من الخطوط التي تعلمها حسن جلبي على يد كبار الخطاطين، وحصل على إجازة فيه أيضًا من حامد أيتاج.
- خط التعليق (الفارسي)
يتميز هذا الخط بانسيابيته وجمال انحناءاته، وغالبًا ما يُستخدم في الكتابات الفارسية والأدبية. حصل حسن جلبي على إجازة في هذا الخط من الخطاط كمال باتاناي عام 1981.
هو من أكثر الخطوط استخدامًا في الكتابة اليومية والمراسلات الرسمية نظرًا لسهولة كتابته وسرعته. يتميز ببساطته وقوة حروفه، وقد درسه حسن جلبي وأتقنه على يد كمال باتاناي.
- الخط الديواني
هو خط زخرفي يتميز بالتشابك والتناسق بين الحروف، وكان يُستخدم قديمًا في المراسلات السلطانية والوثائق الرسمية في الدولة العثمانية.
يعد من أقدم الخطوط العربية، يتميز بأشكاله الهندسية المستقيمة والزوايا الحادة، ويستخدم كثيرًا في الزخارف والنقوش على المباني والمصاحف.
هو خط مزخرف كان يستخدم في التوقيعات السلطانية العثمانية، ويتميز بتداخل الحروف وتكوين شكل زخرفي مميز.
أعماله وإنجازاته
لم يكتف حسن جلبي بإتقان الخطوط فقط، بل عمل أيضا على ترميم نقوش المساجد التاريخية، وتعليم فن الخط لجيل جديد من الخطاطين.
فكان له دور بارز في العديد من المشاريع الخطية داخل تركيا وخارجها.
فقد شارك في ترميم وكتابة نقوش العديد من المساجد، بالإضافة إلى ذلك، كان خبيرا في الحفاظ على الخطوط الإسلامية الأصلية، حيث استخدم أساليب تقليدية للحفاظ على دقة وأصالة النقوش التي قام بتجديدها.
ومن أبرز المساجد التي عمل على ترميم نقوشها أو كتابة نقوش جديدة لها:
- مسجد السلطان أحمد (إسطنبول)، قام بترميم نقوش القبة الجانبية وتجديد كتابة أسماء الله الحسنى على المثلثات عام 1974.
- مسجد الخرقة الشريفة (إسطنبول)، كتب نقوش القبة.
- مسجد نصوحي محمد أفندي (أوسكودار، إسطنبول)، حيث عمل إمامًا وشارك في زخرفة بعض أجزائه.
- مسجد كلية الإلهيات بجامعة مرمرة (إسطنبول)، كتب النقوش الخاصة به عند تجديده.
- مسجد تي بي إم إم (إسطنبول)، عمل على نقوشه وزخارفه.
- مسجد أسكي شهير ريشادي (أسكي شهير)، كتب نقوشه.
- مسجد وان ميركيز (وان، تركيا)، كتب النقوش الداخلية والخارجية.
- مسجد قيصري إيكي كابيلي (قيصري)، شارك في كتابة وترميم نقوشه.
- مسجد ريزا ساهيليولو (ريزا)، كتب نقوشه.
- ضريح ملا كاظم (سيرت، تركيا)، شارك في كتابة نقوشه.
- مسجد سلامي علي (إسطنبول)، شارك في زخرفته.
- مسجد عمرانية سون دوراك (إسطنبول)، كتب نقوشه.
- مسجد تشاغلايان (إسطنبول)، كتب الزخارف الخطية له.
- مسجد جنكيز توبل (إسطنبول)، عمل على زخرفة بعض أجزائه.
- مسجد فنربخشة (إسطنبول)، شارك في كتابة نقوشه.
- مسجد مالتيبي (إسطنبول) – كتب نقوشه الداخلية والخارجية.
- مسجد محمد زاهد كوتكو (إسطنبول) – كتب الزخارف الخطية له.
- مسجد بيوك شكمجة غوزيلجي (إسطنبول) – كتب نقوشه الداخلية.
- مسجد ميرتر يونس أمره (إسطنبول) – شارك في زخرفته.
- مسجد أورتا جشمه (إسطنبول) – كتب نقوشه.
- مسجد شيلهانة (إسطنبول) – عمل على تجديد نقوشه.
- مسجد تشنغلكوي يلدريم بايزيد (إسطنبول) – كتب زخارفه الخطية.
- المسجد النبوي (المدينة المنورة، السعودية) – عمل على ترميم وتجديد بعض نقوشه، خاصة في الأقسام المشيدة حديثًا.
- مسجد قباء (المدينة المنورة، السعودية) – كتب نقوشه عند تجديده عام 1987.
- مسجد القبلتين (المدينة المنورة، السعودية) – كتب نقوشه عند إعادة بنائه.
- المركز الطبي الإسلامي (الكويت) – كتب نقوشه الداخلية والخارجية عام 1986.
- مسجد الجمعة (هولندا) – كتب نقوش الحزام الزخرفي له.
- مسجد الفاتح (فورتسهايم، ألمانيا) – كتب نقوشه عام 1991.
- مسجد الجمعة (جوهانسبرغ، جنوب أفريقيا) – كتب نقوشه عام 1997.
- مسجد الجمعة المركزي (ألماتي، كازاخستان) – كتب نقوشه عام 1999.
- مسجد يونس أمره (جينك، بلجيكا) – كتب زخارفه الخطية.
- مسجد نذير أفندي (موستار، البوسنة والهرسك) – شارك في كتابة نقوشه عند إعادة ترميمه.
الجوائز والتكريمات
تقديرًا لإسهاماته الكبيرة في فن الخط، حصل حسن جلبي على عدة جوائز مرموقة، منها:
- جائزة خدمة الفن من وزارة الثقافة التركية عام 2008.
- جائزة تقدير من منظمة المؤتمر الإسلامي لجهوده في الحفاظ على الخط العربي.
- تكريم خاص من مركز إرسيكا لدوره في تعليم الخط العربي ونشره عالميًا.
- جوائز وشهادات تقدير من عدة دول عربية وإسلامية لمشاركاته البارزة في المعارض والفعاليات الثقافية.
ورغم تقاعده عن العمل الرسمي، فإنه استمر في تقديم دروس الخط والمشاركة في المعارض حتى وفاته، تاركا إرثا فنيا لا يقدر بثمن.