بأقلام المحررين
تحناوت- لا يمكن أن توجد بالقرب من مطعم بإحدى قرى أو بلدات جبال الأطلس المغربية من دون أن يهمس في أذنك أحدهم بضرورة أن تبادر لتذوق “تَفَرْنُوتْ” قبل مغادرة المكان.
إنه ليس مجرد خبز يشبع البطون الجائعة -يحرص هؤلاء القرويون الذين يعيشون بمنطقة الحوز على التوضيح- بل هو أيضا جسر يربط الحاضر بالماضي، يذكّر الناس بآبائهم وأجدادهم، وبجلسات غابرة جمعت أفراد العائلة حول كؤوس الشاي المنعنع وتفرنوت مع حبات الزيتون وزيت الزيتون، أو الطاجين، قبل أن يفرقهم الزمن.
و”رائحة الخبز في الفجر” هي من الأشياء الغالية على قلوب سكان هذه الجبال، ومن الأشياء التي تستحق الحياة على هذه الأرض.
وهذا الخبز الذي يعجن يدويا يتكون أساسا من القمح الكامل أو مخلوطا بنسبة قليلة من الطحين الأبيض، ويجب أن تحترم العجينة شروطا معينة أبرزها ألا تكون صلبة أو طرية كثيرا، وبعد أن تتخمر توضع في الفرن الطيني لتصبح جاهزة مشبعة للعيون قبل البطون.
والفرن يجب أن يكون طينيا، ووسطه مملوء بحجارة ملساء تتشبع بحرارة الحطب المشتعل في الأجناب، توضع عليها العجينة فتنضج في دقائق، وتتناولها اليد دافئة مقرمشة تملؤها حفر هي آثار الحجارة التي نضجت عليها.
ومن الشروط الأساسية لتفرنوت جلب تلك الحجارة الملساء من أحد الوديان الجافة والتي تعج بها المنطقة، ويفضل أن تكون من الأحجار الصغيرة.
وفي مناطق جنوبي المغرب، وبينها مدينة تيزنيت بالقرب من الأطلسي (نحو 650 كيلومترا جنوب العاصمة الرباط)، تشتهر طريقة أخرى لتجهيز تفرنوت، إذ يصنع الفرن الطيني بطريقة طولية، حيث يبلغ طوله نحو المتر، وعرضه نصف المسافة تقريبا، وتسعر النار وسط هذا الفرن الصغير، في حين يلصق العجينة على الجوانب لتنضج بعد أن تبلل بالماء.
واسم تفرنوت في الأصل يعود للفرن الطيني، لكن اشتهر به اسم الخبز الذي كان يسيطر ذات زمن في هذه المنطقة، قبل أن تغزوها أنواع الخبز الحديثة.
إقبال شديد
دلفنا إلى مطعم صغير ببلدة تحناوت، وأذن لنا مسيره بزيارة ذلك المكان السحري الذي يأتي منه هذا الخبز اللذيذ.
بدا العامل نشيطا وهو يدخل بلوح خشبي عجائن تفرنوت الواحدة تلو الأخرى إلى الفرن الطيني، وسرعان ما بدأ يشرح لنا بهمة ونشاط كيف أن هذا الخبز التقليدي يحظى بإقبال شديد من طرف زوار المطعم.
فعجينته صحية عندما يكون مكونها الأساسي القمح الكامل، وطهيها يتم داخل فرن طيني على حجارة ملساء تعج بها وديان المنطقة، والحرارة أصلها الأخشاب، وبالتالي لا أثر لحضارة الإسمنت والكيمياء في هذا الخبز الجبلي الأصيل.
وتجاوزت سمعة وشهرة تفرنوت حدود جبال الأطلس ومنطقة سوس في الجنوب، وباتت تغزو مطاعم باقي مدن المغرب، إذ كثيرا ما تفاجأ بإعلانات مطاعم متنوعة بأنها بدأت توفر خبز تفرنوت للزبائن، في محاولة منها لاستقطاب عشاق هذا الخبز التقليدي الأصيل.
خبز الأسرة
كانت النساء قديما تقضين ساعات طوالا في طحن القمح داخل رحى تقليدية بسيطة بالبيت، وبعدها يعجنّ تفرنوت ويطهينه داخل الفرن الطيني الذي كانت البيوت القروية لا تكاد تخلو منه، والذي يملأ بحجارة ملساء يتنافس الأطفال في جلبها من الوديان الجافة القريبة، ويجب أن تغسل جيدا وتدهن بالزيت عند استخدامها لأول مرة.
أما الآن، فقد تغيرت أحوال كثيرة، واقتحمت الآلات الحديثة تفرنوت، ابتداء من العجانات الكهربائية التي عوضت أيادي الأمهات اللواتي لطالما قاومن صباحات الشتاء الباردة ليعجنّ الخبز لأطفالهن، وانتهاء بالأفران الكهربائية بدلا من تلك الطينية التي كانت تشيد بعرق الآباء والأبناء.
غزو الآلة
ومع ذلك، فالأجيال الجديدة من النساء يرين أن عدم التخلي عن تفرنوت في حد ذاته انتصار على دوامة الزمن واقتحام الآلة للحياة الشخصية.
فيستمر بعضهن في عجن تفرنوت -داخل بيوتهن- بالآلة الكهربائية وطهيه داخل فرن كهربائي، لكن بعد أن يوضع داخل “صينية” مليئة بالحجارة الملساء التي جلبت من واد جاف، والتي تبقى المكون الوحيد الباقي من الطريقة التقليدية لطهي تفرنوت القروي الأمازيغي.
قد تبدو للرائي مجرد حجارة، بيد أن من الحجارة لما تتفجر منها ذكريات آباء وأمهات وأسر وعائلات جمعتها ذات يوم “صينية” الشاي، وخبز تفرنوت وقطرات زيت الزيتون وتلك الضحكات البريئة التي لا شك أن صداها لا يزال يتردد بين قلوب تقاوم -بحرص وقوة- جفاف حضارة الإسمنت.