آسيا (خولة) عبد الهادي أديبة وكاتبة نذرت فكرها وقلمها للتعبير عن واقع المقهورين وقداسة الأرض وسخونة الدمعة من أجل انتصار الحرية والحب والقضايا الإنسانية، واستكشاف الماجدات في الوطن العربي عامة والأراضي الفلسطينية خاصة، واستعادة العدالة في وطنها المبتلى بالاحتلال.
وقبل أيام، فازت بجائزة “وردة العالم” ووشاحها، والميدالية الذهبية من معهد الثقافة العالمية التابع لليونسكو في موسكو، عن روايتها “الحب والخبز” التي ترجمها إلى الروسية البروفيسور بسام فتحي البلعاوي، وإلى الإنجليزية بالتعاون مع الدكتور مبارك العود. وقد أصدرت حتى الآن الروايات التالية: “ذكريات وأوهام” و”سعدية” و”سنوات الموت” و”حكايات المطر” و”بكاء المشانق” و”غرب المحيط” و”الشتاء المرير” و”دولة الكلاب العظمى”.
وباستعراض سريع للرواية الفائزة بجائزة “وردة العالم” ولمجمل مشوارها الإبداعي، نلحظ أن شخوصها حقيقيون ومن الواقع المعيش وبأسمائهم، ومن المجتمع الذي تعيش فيه، كما يظهر حضور اللهجة المحكية في كثير من المواقع، مما أضفى على الحوارات تشويقا مميزا لإسناد فكرة أو تقريب موقف، خصوصا في سياق رجال المقاومة. ونراها تبشر على الدوام بحلم العودة الذي اعتبرته حقا مشروعا لا تنازل عنه.
وتعتبر الرواية بنظر آسيا عبد الهادي “إسفنجة” تمتص المعاني الوطنية والنضالية، وما شهدته فلسطين من بطولة وتضحيات، وفقا للناقد محمد المشايخ. كما أنها تدافع بجرأة وبأسلوب سهل قريب من مختلف المستويات الثقافية، دون أن تبحر في التعقيد اللغوي، عن الذين تركوا فلسطين عام 1948، وتقول “لم نترك وطننا بل ناضلنا”.
ورغم الوجود المكثف للمرأة “شريفات وعفيفات ومناضلات ومضحيات” في رواياتها، فإنها تتوقف عند العلاقة بين الرجل والمرأة، حيث يكون هو المرؤوس وهي الرئيسة، واللافت أن الرجل قبِل بهذا الموقع، وإن كان يبدي في حديثه الساخر أن هذا يشكل انقلابا على المفاهيم الاجتماعية التي تجعل الرجل رئيسا للمرأة.
الحب والخبز.. وثيقة تاريخية
بالنسبة لرواية “الحب والخبز”، فقد اعتبرت وثيقة تاريخية بمضمونها وأحداثها، إذ تتناول سنوات الهجرة الأولى والوضع الإنساني للفلسطينيين بعد نكبتهم عام 1948. تلك الفترة المجهولة تماما للمواطن العربي، وحتى للفلسطيني من غير اللاجئين، إذ تحمل تفاصيل لا يدركها إلا من عاشها، وكانت أسرة الروائية واحدة من الأسر التي اكتوت بنارها وتجرعت مرارتها.
وتقول عبد الهادي “عندما طردنا من فلسطين، لم تكن العائلات تملك شيئا، بل تركت كل ما لديها خلفها، وخرجت على أمل العودة بعد أسبوع أو 10 أيام على الأكثر، إلى أن تهدأ الأوضاع المتوترة جدا في فلسطين، وتدخل الجيوش العربية كما وعدت الدعاية العربية، لتعيدهم إلى أراضيهم”.
وتعتبر في حديثها للجزيرة نت أن الوعد العربي كان “خدعة مروّعة، فخرجت العائلات للنجاة بأطفالها بعد أن انتشرت فظائع المنظمات الصهيونية وما قامت به في دير ياسين من قتل جماعي، وإلقاء الجثث في الآبار، وبقر بطون الحوامل، ونسف البيوت، وحرق المحال، واللجوء إلى كل أساليب الرعب”.
ولهذا، وبعد وعود الإذاعات العربية بعودتهم إلى بيوتهم خلال مدة قصيرة، خرجت العائلات ولم تحمل معها إلا القليل من المتاع، وانتشرت تحت الأشجار وفي الكهوف وتحت أشعة الشمس، حيث لا ماء ولا دواء ولا سكن، بانتظار الجيوش العربية التي ستعيدهم إلى ديارهم.
فرواية “الحب والخبز”، وفقا لكاتبتها، تناولت الوضع الإنساني لهذه العائلات ممثلة في عائلتها وغيرها، ولهذا رأت أن من واجبها إلقاء الضوء على هذه المرحلة القاتمة من حياة اللاجئين، وما صادفهم من أهوال وضياع وحيرة وانتظار، وكيف عاشوا تلك المرحلة المريرة، حيث لا سند ولا أمل ولا معين.
ووصفت النكبة بأنها “زلزال قلب حياة الفلسطينيين”، مشيرة إلى أن كثيرين لم يتطرقوا إلى الكتابة عن هذه الحقبة وآلامها، وتساءل كثير من العرب: “أين كان الفلسطينيون؟ وكيف عاشوا؟ وماذا عملوا؟”، وقد رأت أن من واجبها أن تكتب عن هذه التجربة “بعدما اتهمنا البعض ببيع بلادنا وهروبنا منها”، ولا تدري -كما تقول- “كيف يمكن لشخص أن يبيع أرضه ثم يسكن تحت الشجر وفي الكهوف!؟”، وتضيف “في ظني، من أطلق هذه التهمة إما كان جاهلا وإما أراد رفع العتب عن الجيوش العربية التي خذلت الفلسطينيين”.
ما ورد في الرواية، بحسب قولها، كان “مرآة لحياة الفلسطينيين بعد نكبة 1948، فمهما كان الوطن قاسيا، ففي الغربة ما هو أقسى”، مشيرة في هذا السياق إلى تربوي قابل مسؤولا كبيرا في دولة عربية لم ينصفه، بل أوعز بإبعاده، متناسيا أفضاله.
المرأة مناضلة
وتقول “كتبت 9 روايات قدمت المرأة العربية فيها بصورة مشرقة وحقيقية، ففي الواقع جميع النماذج التي قابلتها في حياتي أو عايشتها كنّ نساء مضحيات، عظيمات، مناضلات، شريفات، مساندات لأسرهن، مشجعات على تعليم أبنائهن، ناكرات لذواتهن ومتطلبات حياتهن في سبيل العائلة. تصحو إحداهن منذ الصباح، وتقضي يومها في تلبية حاجات أسرتها بلا كلل ولا ملل ولا حتى تذمر. وقد وردت أمثلة كثيرة في رواياتي لهذه المرأة، سواء في وطنها أو في المهجر، ولدينا نماذج مشرفة قدمت أسمى آيات التضحية والعطاء”.
وترى آسيا أن الأدب، والرواية خاصة، مرآة للمجتمع وتاريخه، لكنها مرآة تحرك أبطالها على عكس التاريخ الذي يبقى مادة صماء نقرأها للدراسة وإثبات الأحداث، وغالبا ما يغازل الحكام وما يريدونه. فبعض الكتاب يغيرون من الحقائق ما يتلاءم مع مزاج الحاكم، وقلما نجد في تاريخنا العربي كتبا تناولت الحقيقة كما حدثت، دون تأثير من الحكام أو النزعة الدينية أو الانتماء للقبيلة أو العشيرة أو بعض المصالح النفعية لهذا المؤرخ أو الشاعر أو الكاتب.
“هناك مؤثرات كثيرة كثيرا ما تحكم التاريخ، أما الرواية فهي في الأغلب تصور المجتمع كما هو بعلاته وجمالياته وزواياه المختلفة، من وجهة نظر الكاتب كما يراها، من دون تأثير خارجي على ما يكتبه. فمثلا، الأدب الروسي كان بمنزلة تأريخ لحقبات ما قبل الثورة البلشفية، وما كان يعانيه المواطن الروسي من فقر وجهل وقسوة واضطهاد للمرأة والفئات الأقل حظا”.
وترى أن الرواية تحمل كثيرا من مفاهيم الروائي وتوجهاته، ولا يمكن أن تكون غريبة أو منفصلة عنه، وإلا كانت زيفا. وتقول “شخصيا، معظم شخصيات رواياتي مستمدة من المجتمع الذي أعيش فيه وأراه أمامي. ومن المفترض أن يكون الروائي مخلصا لمجتمعه الذي يعيش فيه ويعبر عن آلامه وتطلعاته، ويضع رواياته في خدمة هذا المجتمع، كاشفا عيوبه ومشكلاته، وواضعا إياها أمام من يهمهم الأمر لمراجعتها.. هذا إذا كانوا يقرؤون”.
“من وجهة نظري، نحن نعيش حقبة سوداء من تاريخ أمتنا، وعلى الكتاب والروائيين أن يكونوا مخلصين في نقل حقيقة الأحداث التي تنهش جسد الأمة، حتى لا تتكرر مثل هذه الحقب، فقد ينشأ لدينا جيل جديد يرفض تقسيم الأمة إلى دويلات وحدود وقطريات، بل يعمل ويتطلع إلى الوحدة، فلدينا الكثير مما يجمعنا”.
وترى أن على الروائي، إذا أراد كتابة رواية، أن يفكر أولا بقدرته على التعبير عن الموضوع ومعايشة الأحداث. “أما بالنسبة لي، فأجد نفسي منسجمة تماما مع شخصيات رواياتي، فهي قريبة مني، أكلمها وتكلمني، ونتحاور معا، وأضعها على الورق. ولهذا، تخرج في الغالب كصور وأشخاص تتحرك وتتحدث مع القارئ، وتتلمس مشاعره، وتعيش معه حتى آخر سطر، وكثيرا ما يجد نفسه فيها”.
الطوفان.. مفاجأة غير متوقعة
أما “طوفان الأقصى” فقد كان مفاجأة غير متوقعة، وتعتقد الروائية آسيا عبد الهادي أن الكتاب والروائيين سيجدون صعوبة في التعبير عن هذا الزلزال حاليا، وربما حتى في المستقبل. وتقول “بعد أن تهدأ الأوضاع ونقطف ثمار هذا الحدث العظيم، سنتمكن من الكتابة عنه، أما الآن، فالأحداث تتلاحق، ولا نستطيع الإمساك بها”.
وحين سألنا الروائية آسيا عبد الهادي عما إذا كانت تتوقع تغريبة فلسطينية جديدة، كان جوابها: “إن شعبنا الفلسطيني يمر بظروف مروعة، بعد أن تخلت عنه أمته، وسيكون هناك مجال كبير لتغريبات فلسطينية كثيرة، سيكتبها كتاب فلسطينيون وعرب وأجانب، بعد ما نراه في غزة والضفة من إجرام أمام الكاميرات، وصمت العالم وخذلانه”.
وترى أن قصة غزة، المدينة الصغيرة التي يحاربها العالم أجمع، سيكتب عنها ما لا تتسع له مكتبات العالم من قصص وحكايات، لتكون وصمة عار على جبين الأمم المتحدة ومنظماتها، ودول القارات الخمس. وتضيف بلا تردد “أستطيع أن أطلق على هذه المرحلة اسم (مرحلة الذهول الثقافي)”.
وتوضح أن المثقف الفلسطيني، بخاصة، يراقب بعين زائغة، مرتبكا وخائفا، ويخشى على قضية وطنه، وأن تتمخض المؤامرات والخيانات عن نكبة جديدة أكثر قبحا وفظاعة من نكبة عام 1948، بعدما جنحت دول عربية كثيرة إلى التعامل مع دولة الاحتلال بشكل مكشوف، ومن دون مواربة.
غضب جماهيري.. وحياة مقاوم
وعلى صعيد متصل، يرى الناقد محمد المشايخ أن رواية “الحب والخبز” تستعرض بجمالية ردة الفعل الجماهيرية الغاضبة للشعب الفلسطيني بعد صدور وعد بلفور، وما تعرض له على يد البريطانيين والصهاينة، وما قدمه من تضحيات من أجل التحرر وطرد الغزاة. كما تناولت الرواية حياة المقاوم محمد مصطفى الضميري ورفاقه من المقاومين، وما قدموه من بطولات استحقت التخليد، وكان ثمن ذلك اعتقاله واستشهاده شنقا على يد البريطانيين.
وهنا يشار إلى قدرة الروائية على تجاوز الروايات التسجيلية والتوثيقية، وانتباهها إلى أن الموضوع التاريخي والوطني الملتزم، القائم على تفكيك الروايات الشفوية، بحاجة إلى جماليات خاصة تميزه عن النثر العادي. ومن هنا التزمت بتلك الجماليات وقدمت عملا روائيا متميزا.
ورغم عدم إيمان الروائية بتصنيف الأدب إلى “نسوي” و”ذكوري”، فإن روح المرأة المبدعة وخصوصيتها تسود الرواية. وهنا تتبدّى قدرة آسيا عبد الهادي على امتصاص اللغة الاجتماعية الأنثوية وإدخالها في بنية السرد الروائي، في الوقت الذي حافظت فيه على التنوع اللغوي وتعدد اللهجات، مضطرة في كثير من المواقف إلى استخدام العامية، لا سيما أن معظم شخصيات الرواية من الأميين، كما في المثال: “ونجدوا لنا فرشتين محترمتين هالخمل” (ص 52).
وحول كون معظم أبطالها من السيدات، يرى المشايخ أن “المرأة تنتصر للمرأة، إلا في هذه الرواية”، فقد أدانت الروائية موقف المرأة التي تطلب من شقيقها التوقف عن المقاومة خشية الموت أو الأسر، بينما يحتال الشقيق عليها ويهرب، ويترك حتى عروسه بعد الزفاف، من أجل الالتحاق سرا بالمقاومة.
جمال المدينة وإنجاب المقاومين
ومن وجهة نظره، نجحت عبد الهادي في تقديم وجهات نظر متعددة، إذ تداخل فيها صوت السارد مع صوت الراوي، إلى جانب صوت الشخصيات، كما أخفت صوت البطل، إذ كانت كلماته قليلة جدا، بينما إنجازاته الكفاحية والوطنية كبيرة. وبقدر ما كانت الروائية حيادية في نقل الأحداث كما جرت، إلا أنها كانت تنحاز للخيّرين في مواجهة الأشرار دائما.
ووفقا للمشايخ، فقد اشتغلت الروائية على تقنية “المعلوم والمجهول”، فكانت تصرح بما خفي واستتر من أحداث، وتتجاوز ما يعرفه دارسو القضية الفلسطينية ومن عايشوا الصراع العربي الصهيوني، فلا تورده، ضمن سعيها لتجاوز الإطناب والمحافظة على الإيجاز قدر المستطاع.
إضافة إلى ذلك، أحدثت ازدواجية في السرد تشتمل على وصف الأمكنة، مع تركيزها على مدينة الخضيرة في فلسطين المحتلة عام 1948، إذ قالت “الخضيرة أجمل بقاع الدنيا، خضرتها وطقسها البديع صيفا وشتاء، خضرة دائمة طوال العام ومواسم زراعية مستمرة” (ص 36)، وذلك يعيدنا إلى موضوع المدينة في الرواية العربية، وهي هنا تتسم بالجمال، وتعد الأقدر على إنجاب المقاومين.
.
هل تبكي المشانق!؟
وفي رده على سؤال عن ملحمتها “بكاء المشانق”، يرى المشايخ أنها تشخيص بلاغي يشتمل على صورة فنية نقلت الموضوع من حالته التقريرية أو المغيبة إلى حالة ترى وتعاش بالبصر والبصيرة، بما اكتسبته من نبض وحركة وحياة، وهي صورة نسبت فيها إلى الجماد (المشانق) ملامح بشرية (البكاء)، كأن الروائية تقول عبر العنوان: “إذا كانت المشانق تبكي حين تودي بحياة الأبطال، فكيف حال ذوي هؤلاء وشعبهم وأمتهم؟”.
وفي الرواية صياغة جمالية لجانب من التاريخ الشعبي والمرويات الشفوية للصراع العربي الصهيوني ومسيرة الشعب الفلسطيني، تتبدى فيها بطولات رجاله ونسائه وتضحياتهم. وإن كانت النهايات في كل المواقف حزينة، إلا أن الحزن دائما مسبوق بما يبعث على الفرح. هناك دائما صراع على الأرض ينتصر فيه الأعداء، وآخر روحي ينتصر فيه من يفقد تلك الروح ويسقط شهيدا، وفي كل الأحوال ثمة حزن مقيم في الرواية والوطن، حزن يجبر القارئ على البكاء، ويشتد باعثا على التشويق بنهاية تراجيدية.
وتقارن الرواية بين جيل اليوم والأمس، وتنتصر للجيل القديم، فتقول “شباب اليوم صايعين” (ص46)، و”كان الرجال أصحاب همة وشرف تلك الأيام.. صحيح أميين لكنهم أشرف مائة مرة من كل حملة الشهادات هذه الأيام”، و”في الماضي كانت النساء قويات يعملن كالرجال.. فوزية ترفع كيس التبن كأنه قنينة ماء” (ص50).