في بدايات العقد الثاني من القرن الجاري، خضع 21 طفلاً أعمارهم حول أربع سنوات لتجربةٍ مثيرة، طُلب منهم النظر إلى شاشةٍ عليها صندوقان، وعليهم اختيار الصندوق الذي يظنون أنه يحتوي على أقل عدد من النقاط، وقد اختار ثلاثة أرباعهم الصندوق الصحيح حينما احتوى كل صندوقٍ على نقطة واحدة على الأقل، ولكن حينما أُضيف صندوقٌ ثالثٌ احتوى على الصفر خياراً، انخفضت نسبة الإجابات الصحيحة إلى أقل من 50 %.

يُرجّح أن هذا يرجع إلى أن تعلّم العدّ عادةً ما يبدأ بالرقم «واحد»، أو ربما لأن فكرة الأرقام ترتبط بالأشياء في العالم الحقيقي (بدلاً من غيابها)، وعلى ما يبدو، فإن فكرة «لا شيء» رقماً لم تكن مفهومةً بشكلٍ بديهي بالنسبة للأطفال.

قد يبدو «الصفر» واضحاً لنا مفهوماً، ولكنه يُعدّ واحدة من بين الظواهر الرياضية العديدة في كتاب تاريخ الرياضيات الجديد «الحياة السرية للأرقام» تأليف كيت كيتاغوا وتيموثي ريفيل، والذي يتسم بقصة مُعقدة بشكلٍ مُذهل، فقد استعصى هذا المفهوم على عُلماء الرياضيات القُدامى حتى نحو القرن السابع في الهند، إلى أن تحول الصفر من مُجرد حفظ لخانة حسابية إلى رقم يُمكن حسابه فعلياً.

وكما برهنت كيتاغوا، مُديرة مكتب تعليم الفضاء في وكالة استكشاف الفضاء اليابانية، وتيموثي ريفيل، نائب رئيس التحرير الأمريكي في مجلة نيو ساينتست، فإن الأجيال السابقة لم تنظر دوماً إلى الأرقام كما نفعل، وكما ذَكَرَا في كتابهما: «على الرغم من أن الرياضيات غالباً ما تُقدم أنها تتألف من تسلسلات منطقية مُنظمة من الأفكار والبراهين والنظريات، فإن تاريخها نادراً ما كان بهذه البساطة والوضوح»، لا لشيء إلا لأنها سردية سيطر عليها شخصيات ومُجادلات غربية، غالباً على حساب مُبدعين آخرين.

إن كتاب الحياة السرية للأرقام مُحاولة لتصحيح المسار، فنحن نسمع عن عالم الرياضيات الفارسي جمشيد الكاشي، الذي حدّد قيمة الـ«ط» أو ثابت الدائرة إلى 16 موقعاً بنظام العد العشري في القرن الخامس عشر، وهو أكثر برقمين مما نحتاجه لإطلاق الصواريخ إلى الفضاء؛ وكيف يُمكن أن نُسميها نظرية «جوجو» بدلاً من نظرية فيثاغورس، وهو اسم ضلعيّ المُثلث في اللغة الصينية، وهي أول لغة سُجِلت بها النظرية؛ وعن الأصول الحقيقية لحساب التفاضُل والتكامُل، الذي لم يولد على يد إسحاق نيوتن أو جوتفريد ليبنيز، إنما في ولاية كيرلا الهندية في القرن الرابع عشر، حيث ابتكر مادهافا من مدينة سانجاماجراما نموذجاً لسلسلة غير نهائية، اعتمدت في استنتاجها على حساب التفاضُل والتكامُل، وهو أحد العمالقة الذين ادعى نيوتن أنه وقف على أكتافهم ليرى ما هو أبعد.

ويسعى كيتاغوا وريفيل أيضاً إلى معالجة التوازن بين الجنسين في تاريخ الرياضيات، فيُقدمان لنا لمحة عن النساء اللواتي لم يحظينَ قط بالتقدير الذي حظي به نُظراؤهن الذكور، مثل باندروسيون، التي حلّت مسألة مُضاعفة المكعب في القرن الرابع، ولكن فترة طويلة كان الناس يفترضون أنها رجل، على الرغم من ضمائر التأنيث التي خاطبها بها مُعاصروها، وهناك أيضاً هيباتيا، التي كانت مسؤولة عن متحف الإسكندرية القديم، وهي الوثنية عبقرية الرياضيات التي بنَت الأسطرلاب ومقياس كثافة السوائل، وكتبت تمارين تُصاحب كتاب علم الرياضيات ديوفانتوس أريثميتيكا، وعلى الأرجح عاشت حياة العزوبة، وصَدت محاولات تقَرُب تلاميذها عن طريق تهدئتهِم بالموسيقى. وفي مرحلة لاحقة، هناك إليزابيث أميرة بوهيميا في القرن السابع عشر، والتي قال عنها رينيه ديكارت: «الشخص الوحيد الذي وجدته حتى الآن فهم تماماً جميع أعمالي المنشورة سابقاً».

قد يُؤدي هذا النهج الشامل إلى انقسام القراء، ولكن هذا ليس تأريخاً تُحذف فيه الشخصيات الرياضية المعروفة، بل نهج شامل يتضمن إضافة شخصيات جديدة. وفي أوقات الاستقطاب والمعلومات المزيفة، تأتي هذه الحكاية المُمتعة التي توقفك لتذكيرك بماهية البرهان، وتُبهجك بالسعي وراء الاكتشاف، والذي لا يُمانع فكرة أن الأفكار الجديدة ستحلّ محلّه هو الآخر.

يبدو أن هناك أكثر من مُجرد أرقام على المحك: الرياضيات بحث عن النظام والفهم في عالم فوضوي وغير مفهوم، والهندسة، حرفياً، قياس الأرض، ووفقاً لأرسطو هي التي «تسحب الروح نحو الحقيقة». إن سعي كتاغوا وريفيل للحصول على صورة كاملة للموضوع يبرز أكثر من مُجرد روح العصر للتقدير الاجتماعي، إنما يُمثل السبيل الوحيد الذي يجب أن تكون عليها الدقة المُناسبة لتأريخ علم الرياضيات، أي طريقة أُخرى، ببساطة، لن تكون منطقية.

شاركها.
Exit mobile version