هي نهاية متوترة لعام 2023، في ظل النشاط الواضح على ساحة حالات الانفصال وفك الارتباط بين الأطراف المختلفة وعلى خلفية وضع جيوسياسي ممزق، لذا، فإن الوقت ليس ملائماً لأي سياسي أن يدلي بدلوه، ولو بصورة غير مباشرة، في الحديث حول عدم ثقة بلاده حتى بأقرب أصدقائها.
ينطبق الأمر بحذافيره على الولايات المتحدة، بالنظر إلى القفزات التي ما زالت تطلبها من أصدقائها، مع ما ذكره الرئيس الأمريكي جو بايدن، فور عودته من إسرائيل في أكتوبر، أن «التحالفات الأمريكية هي ما يجعلنا في أمريكا، آمنين».
لكن رد الفعل الأمريكي العنيف من الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، حيال شراء «نيبون ستيل» اليابانية، لشركة «يو إس ستيل»، بقيمة 14.9 مليار دولار، يبدو أنه ينبع من فكرة أنه يتعين الشك حتى في أقرب الأصدقاء، لا سيما وأن الصفقة ذات دوافع تجارية قوية ويدفع فيها المشتري الياباني ضعف ما قدمه المزايد الأمريكي تقريباً.
وبغض الطرف عن مدى سوء العلاقات السياسية بين الدولة وشركات الصلب، عشية عام الانتخابات، فالتلويح بعدم الثقة في اليابان استراتيجية غريبة إلى حد منحرف، خصوصاً في حقبة تخوض فيها الولايات المتحدة حرب رقائق، وتسعى حثيثاً لاجتذاب استثمارات من اليابان وتدفع باتجاه «إعادة توطين سلاسل التوريد مع الدول الصديقة» باعتبارها وحدة لقياس الجدارة بالثقة الدبلوماسية.
وتعتبر اليابان نفسها الحليف الأقرب لأمريكا في آسيا، ولأسباب منطقية. فاليابان هي الدولة المضيفة لأكبر عدد من الجنود الأمريكيين خارج حدود الولايات المتحدة ذاتها، وهي أيضاً العميل المهم والمضمون للغاية للمعدات الأمريكية.
وأثبتت اليابان أخيراً هذه الصداقة في مناسبات عدة، أبرزها عند انضمامها إلى الولايات المتحدة في فرض قيود على صادرات معدات إنتاج أشباه الموصلات شديدة التطور، ومساعدتها واشنطن، مباشرة، في حشد المشاركين بالإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ولكن شبح مخاوف الأمن القومي لاح في المشهد، في غضون 48 ساعة من صدور إعلان «نيبون ستيل». فقد وقع ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، خطاباً، شجبوا فيه «نيبون ستيل»، باعتبارها شركة «تتجه ولاءاتها صراحة إلى دولة أجنبية»، وأصروا على أن لجنة الاستثمارات الأجنبية «بإمكانها، وحري بها» وقف صفقة الاستحواذ على هذه الأسس.
وفي الوقت ذاته، كتب ثلاثة من الساسة الديمقراطيين خطاباً إلى الشركة، طلبوا فيه مزيداً من التوضيحات، فيما توجه أحدهم وهو عضو مجلس الشيوخ، جون فيترمان، إلى وسائل التواصل الاجتماعي؛ تعبيراً عن غضبه من أن شركة «يو إس ستيل»، «باعت نفسها لدولة وشركة أجنبيتين».
ثمة الكثير من الأسباب التي تفسر لم رد الفعل العنيف هذا معيب. الأول هو الخلط السطحي بين «نيبون ستيل» والدولة اليابانية، وكأنها قابلة للمقارنة بشركة صينية أو أي شركة أخرى مصنعة للصلب مملوكة لدولة ما. لكن الأمر ليس كذلك، وهي ليست مختلفة عن «يو إس ستيل».
لقد اعتمدت تفسيرات سرعة النهضة الاقتصادية اليابانية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي بشدة على فكرة، مفادها أن السياسات الصناعية الحكومية والتواطؤ المحكم بين الشركات والدولة عززا تنافسية الشركات اليابانية.
وبغض الطرف عن مدى معقولية هذه السردية في يوم من الأيام، لكن دقتها تبخرت على مدى 30 عاماً مضت. وربما تكون هناك تدخلات حكومية من آن لآخر، لكن التلميح إلى أن «نيبون ستيل» لا تتحرك من منطلق مصالحها التجارية، بل من منطلق مصالح الدولة اليابانية، هو أمر خاطئ.
لكن التلميح الأكثر ضرراً في خطاب رد الفعل العنيف ينطوي على أن مجرد «يابانية» الشركة المستحوذة أمر شرير في حد ذاته، وهو تلميح يرفضه بشدة هاينو كلينك، نائب مساعد وزير الدفاع السابق لشرق آسيا.
وقال كلينك لـ «فاينانشال تايمز»: «إذا لم تتم الموافقة على هذه الصفقة، فستلقي بظلالها على التحالف، وهذا ليس من مصلحتنا». وتابع: «ليس بإمكاني التفكير في أي سبب ذي صلة بالأمن القومي يمكن استخدامه مبرراً لعدم الموافقة على هذه الصفقة».
هناك أمر غريب ثالث، وهو الطبيعة الفوضوية للاعتراضات الأخرى على صفقة الاستحواذ. من ناحية، قضى المستثمرون الأمريكيون عقوداً انتقدوا فيها الشركات اليابانية لفشلها في تطبيق معايير ربحية أشد قوة، تولي مصالح المساهمين الأولوية.
واليوم، وفي خضم احتمالية استحواذ شركة يابانية على منافسة أمريكية، يكمن الخوف الضمني في تطبيق الشركة اليابانية، بطريقة ما، لمعيار أشد قسوة لرأسمالية المساهمين أولاً من ذلك الذي تطبقه «يو إس ستيل» حالياً.
وقد يرحب الكثير من المستثمرين بهذا التقدم.يضع كل واحد من هذه العيوب، الساسة، الذين يقودون ردة الفعل العنيفة، في حالة من عدم الاتساق وسوء التوقيت. وإذا وافقت الدولة على صفقة «نيبون ستيل»، فستدفع بشركة أمريكية متوسطة التصنيف تحت مظلة واحدة من أبرز ثلاثة مصنعين للصلب على مستوى العالم، ليست أي منها أمريكية.
وعلى وجه الخصوص، ستجعل الصفقة، هذه الشركة، أكثر تنافسية مع منافسيها الصينيين، الذين تسيطر عليهم الدولة بالفعل، في حقبة تعد فيها هذه المعركة التهديد الأكبر. لكن السؤال الأصعب يتعلق بالثقة، وهو، إذا لم ينظر إلى اليابان على أنها مشتر شرعي للأصول في الولايات المتحدة، فمن يكون إذن؟