تصدرت الأخبار العناوين، وتسابقت الشاشات لعرض آراء الخبراء، وانتشرت الرهانات الجانبية، وامتدت أعمدة المقالات إلى القمر، وتراصت ملاحظات المحللين في أكوام متزايدة.
كما اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي من كثرة التعليقات وكأنها ألعاب فيديو، بأخبار الفيدرالي الأمريكي، لكن في النهاية لم تنبهر الأسواق بشكل مثير للسخرية، فقد حصلنا على الخفض الكبير بمقدار 50 نقطة أساس، لكن الأسهم والسندات والعملات تجاهلت كل ذلك بازدراء، فيما بدا وكأنه جهد متعمد لإذلال المعلقين الماليين.
لم تكن اللامبالاة مثيرة للضحك فحسب، بل كانت أيضاً نهاية مناسبة للجلبة التي أثيرت حول «هل هو خفض بواقع 25 أم 50 نقطة أساس»، فبمجرد أن أشار بنك الاحتياطي الفيدرالي بشكل حاسم إلى تحوله نحو الخفض، كان الأمر الأكثر أهمية ليس هو وتيرة الخفض، وإنما الوجهة، لأن فرق ربع نقطة في سعر الفائدة قصيرة الأجل، بمعزل عن غيره، ليس له أهمية كبيرة بالنسبة للاقتصاد كله.
المهم بالنسبة لحجم خفض محدد في توقيت بعينه هو الإشارة التي يرسلها بشأن رحلة البنك المركزي على المدى الطويل، وما هو السعر الذي يعتقد أنه يجب أن تصل إليه أسعار الفائدة، والوقت الذي يعتقد أنه يحتاجه للوصول إليه.
وهذا يقودنا إلى الحديث عن سعر الفائدة المحايد، أي المستوى غير الملحوظ لمعدلات الفائدة الذي يتوافق مع التوظيف الكامل والتضخم المنخفض. وهنا يحب جيروم باول رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي مقولة «نحن نعرفها فقط بتأثيرها»، فقد أتى على ذكر هذه العبارة مرتين في مؤتمره الصحافي الذي عقده عقب الإعلان عن الخفض.
إنك ستدرك أنك دفعت بالفائدة دون المعدل المحايد عندما يقفز التضخم، وتعرف أنك تخطيته عندما تتراجع الأصول الخطرة وتقفز البطالة.
وبين هذا وذاك ستسير في الظلام، تتكهن بموعد سقوطك من الجرف، أو بالتناوب، تصدم رأسك. بشكل عام، لا يمكن لمسؤولي المصارف المركزية الوقوف مكتوفي الأيدي أيضاً. الاقتصادات تعمل بزخم، والسياسات تعمل ببطء، وعلى الفيدرالي تقدير الاتجاه والمسار للوصول إليه.
وتبلغ التقديرات الحالية للفيدرالي بشأن الفائدة المحايدة 2.9%، بحسب ملخص توقعاته الاقتصادية، بزيادة 0.1 نقطة مئوية مقارنة بملخص توقعات يونيو الماضي. وقد لا يبدو هذا تغييراً كبيراً، لكن إذا نظرت إلى إطار زمني أطول قليلاً، ستجد مع ذلك أن الفيدرالي غير وجهة نظره إلى حد كبير.
ويتماشى هذا التحول مع التوافق الناشئ في الآراء الاقتصادية على أن العطاءات المالية، والشيخوخة السكانية، وانكماش العولمة، وارتفاع الإنتاجية، وعوامل أخرى متنوعة، تدفع بمعدل الفائدة المحايد إلى الارتفاع.
وتكمن الأهمية العملية للتغيير في أن الاحتياطي الفيدرالي ليس لديه الكثير ليقطعه في هذا الطريق للوصول إلى ما يعتقد أنه (حتى الآن) هو الوجهة. وإذا تحرك بوتيرة سريعة تبلغ 50 نقطة أساس في كل اجتماع، فسيكون قريباً من الهدف في مارس من العام المقبل (لكن الفيدرالي يعتزم التحرك بوتيرة أكثر تروياً، إذا سمحت الظروف بذلك).
وإذا كان معدل الفائدة المحايد أقرب الآن، فلمَ إذن التحرك بخفض 50 نقطة أساس؟ كانت إجابة الفيدرالي: لأننا نستطيع. وكان موضوع البيان والمؤتمر الصحافي هو أن التقدم الممتاز في التضخم سمح بخفض كبير لكن وقائي.
نحن نعتقد أن سوق العمل بخير تماماً، ولأن التضخم قد تم كبحه، يمكننا التصرف للتأكد من بقائه على هذا النحو. وتعتقد منصة التحليل «أنهيدجد» بفاينانشال تايمز أن الفيدرالي محق في هذا الأمر.
فمن المحتمل أن التضخم تم كبحه، وأن الاقتصاد بخير تماماً، لذا فإن خفضاً بمقدار 50 نقطة أساس بمفرده يحمل مخاطر قليلة. لكننا لا نعرف، وربما لا أحد يعرف، أين المعدل المحايد. كل ما نعرفه هو أننا أقرب إليه الآن بـ50 نقطة أساس، ونقترب منه.
وبالنسبة لأغلب المستثمرين، يعد هذا مهماً بسبب احتمالية ارتكاب الفيدرالي لخطأ. إذا تمادى الفيدرالي، وعاد التضخم للاشتعال، واتضح آنذاك أن الفيدرالي سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى، سيرغب المرء في امتلاك الأسهم وليس سندات الخزانة (بشكل مبسط للغاية).
وإذا لم يذهب بعيداً بما يكفي، وانخفض معدل التوظيف بما يؤدي إلى ركود، فإن الرهان المعاكس هو الصحيح. وليس لدى المستثمرين النشطين أي خيار في هذه المرحلة من الدورة إلا تكوين وجهة نظرهم الخاصة حول موقع سعر الفائدة المحايد، حتى يتمكنوا من تحديد نوع الخطأ الذي من المرجح أن يرتكبه بنك الاحتياطي الفيدرالي.
وهذا أكثر أهمية بكثير من حجم الخفض التالي، لكن 25 مقابل 50 هو نقاش لطيف ومحدد بوضوح، في حين أن تقدير سعر الفائدة المحايد هو ندوة اقتصادية في جامعة، حيث يكون المنهج سرياً، وتاريخ الامتحان غير معروف، ودرجاتك تحدد راتبك.
إن المخاطر مرتفعة حالياً بصورة استثنائية، لأن أسعار الأصول الخطرة أصبحت عالية للغاية. أما الأسهم، خاصة أسهم كبرى الشركات الأمريكية، فتتمتع بمضاعفات أرباح عالية، والفروق بين أسعار الفائدة على الائتمان أصبحت ضيقة للغاية.
وهذا يعني أن التسعير يتم من أجل الاستقرار. والبنك المركزي يجب عليه تغيير مساره بسرعة لأنه إما تجاوز أو قلل معدل الفائدة المحايد، وهذا هو النقيض التام للاستقرار. وأنت في النهاية تراهن على معدل الفائدة المحايد، سواء كنت تدرك ذلك أم لا.