إن الوصول إلى هذه الأهداف السامية وبالسرعة الممكنة يتطلب خلق الأجواء والظروف المناسبة وفي مقدمتها السلام مع دول الجوار ومع العالم. في منطقتنا مفردة السلام وإن كانت هي الأكثر شيوعاً بين المنظرين لكنها الأقل تطبيقاً على أرض الواقع. سبب ذلك انتشار وتنوع تجار الحروب ممن يمارس شعارات «المقاومة» والتحرير. أقصد تحديداً من يتغنون بضرورة مواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين، رغم أن العرب في مواجهاتهم مع إسرائيل منذ عام النكسة ١٩٤٨ خسروا أكثر مما استفادوا ولم يتحقق لهم شيء مقارنة بما تحقق من معاهدات السلام. المؤسف أيضاً أن سوريا حافظ الأسد لم تلحق بمصر السادات عندما استعاد سيناء عبر اتفاقيات السلام في كامب ديفيد. كان بإمكان الأسد آنذاك استعادة الجولان لو لم يغير رأيه في اللحظات الأخيرة.
قوة سوريا التفاوضية حالياً تكمن في حدودها الإستراتيجية المتمثلة في مرتفعات الجولان وأهمية هدوء هذه الجبهة بالنسبة لإسرائيل. نتساءل هنا لماذا لا تسعى الحكومة الجديدة وعبر طرف ثالث لعلاقات سلام مع إسرائيل مقابل خروج الأخيرة من الجولان أو من معظم مساحاته؟ من حيث المبدأ بإمكان القيادة السورية الاقتداء بمن دعمها لتحرير الدولة وأقصد تركيا التي تقيم علاقات متكاملة مع إسرائيل ويتبادل الطرفان كافة أنواع التبادل التجاري والصناعي.
لا أعلم إن كان هذا التوجه وارداً لدى القيادة السورية الجديدة، غير أن هذا الطريق قد يمثل إصابة عشرات العصافير بحجر واحد. أهم ما يمكن تحقيقه لسوريا هو الدعم العالمي لها سياسياً واقتصادياً ومنحها الشرعية اللازمة من مجلس الأمن. سوريا أيضاً بحاجة لإعادة تنظيم قواها الأمنية والعسكرية وسيتطلب ذلك دعماً مالياً ولوجستياً من الأشقاء ومن دول العالم. المحور الآخر هو قطع الطريق على المزايدين والمتاجرين بالقضية الفلسطينية. الأهم من كل ذلك التفرغ لبناء سوريا الغد التي يستحقها هذا الجيل من أبناء وبنات وشيوخ وأطفال سوريا بعد نصف قرن من فساد الحكومة والقتل والتنكيل والإجرام. ما يقال عن سوريا يمكن أن يقال عن لبنان والعراق لو توفرت الإرادة. لبنان تحديداً بما يتوفر به من طبيعة ساحرة وتعايش لا مثيل له عربياً بين مختلف الأعراق والمذاهب، لا بد أن ينأى بنفسه عن الحروب والمواجهات وأن يعود قبلة جميلة للسياحة والاستثمارات، ليتحقق ذلك لا بد من إغلاق جبهة الجنوب إلى الأبد من خلال تصالح وتطبيع مع إسرائيل.
نقول ذلك لأن إسرائيل باقية إلى أجل غير مسمى كما هو واضح. إقامة العلاقات مع الأعداء لا تعني بالضرورة زواجاً كاثوليكياً وصمتاً مطبقاً عن التجاوزات. نحن نشاهد مواقف الدول العربية الموقعة معاهدات سلام مع إسرائيل ضد الانتهاكات الإسرائيلية والكثير من هذه المواقف مؤثراً. ثم إن السلام يخلق بيئة استثمارات متبادلة بين الدول وقطاعاتها الاقتصادية ومن شأن ذلك تشكل مراكز دعم داخل إسرائيل قادرة على كبح جماح المتطرفين في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ومثل هذا الدعم لا يتوفر مع القطيعة الكاملة.
دول الشام وشعوبها ولأكثر من نصف قرن عانت من الشقاء والبؤس والحيرة وضبابية المستقبل. استغل «البعض» ضعف وتهالك قياداتها التي وضعت الخيانة دستورها. باع هذا «البعض» واشترى الذمم ولم يتردد في سفك الدماء البريئة. هذه الدول وشعوبها بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى التقاط الأنفاس وبناء كيانات جديدة «مختلفة تماماً» عن كل ما مضى. كيانات توفر الحياة الكريمة لأصحاب الأرض وترعى المبدعين وتزرع الفرح وتنافس على الجودة وتغلق الأبواب ضد الطامعين. مع أشقائها في الخليج وشمال أفريقيا سنلحظ عندئذٍ مولد «أوروبا جديدة» في منطقتنا. ألا يستحق تحقيق مثل هذا الحلم كل التضحيات ونسف العوائق البالية والخرافات الأخرى التي عفا عليها الزمن؟