في الوقت الذي تتسارع فيه الأزمات البيئية وتزايد الضغوط الاقتصادية، أصبح البحث عن حلول جديدة لتحقيق الاستدامة ضرورة ملحة، ويبرز الذكاء الاصطناعي كأحد الابتكارات التقنية التي تسهم في سد فجوة الاستدامة من خلال إحداث تغييرات جوهرية في عدة قطاعات، بدءاً من الطاقة والزراعة وصولاً إلى الصناعات التحويلية والتمويل.
وفي هذا الصدد، أكد أكاديميون لـ«البيان» أن تطبيق التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يمثل جسر المستقبل نحو تحقيق أهداف الاستدامة في عناصرها الثلاثة الاجتماعية والاقتصادية والبيئة، كما يوفر عائدات مادية إلى جانب تسريع الوصول إلى الأهداف الوطنية للاستدامة، ووصفوه بأنه حجز الزاوية لدعم جهود الدولة في تحقيق اقتصاد أخضر.
تحسين كفاءة الطاقة
وقال الدكتور عيسى البستكي رئيس جامعة دبي، إن الطاقة واحدة من أكبر التحديات التي تواجه العالم في مسيرة الاستدامة، وأن الذكاء الاصطناعي يلعب دوراً في تحسين كفاءة استخدام الطاقة وإنتاجها.
وعلى سبيل المثال، تعمل خوارزميات الذكاء الاصطناعي على تحسين شبكات الكهرباء الذكية والتوزيع الأمثل للطاقة بناء على الاحتياجات الفعلية للمستهلك، من خلال توقع أنماط الاستهلاك وتقديم بيانات دقيقة حول كفاءة الأجهزة، كما يمكن للشبكات الذكية تقليل الفاقد في الطاقة وتحسين الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح.
وأضاف أن الذكاء الاصطناعي يستخدم أيضاً في تحسين صيانة معدات توليد الطاقة، مثل التوربينات الهوائية والألواح الشمسية، وباستخدام تقنيات التعلم الآلي، يتم التنبؤ بالأعطال المحتملة قبل وقوعها، مما يزيد من عمر الأجهزة ويقلل من الحاجة إلى الصيانة الطارئة المكلفة.
وقال محمد عبدالله رئيس معهد دبي للتصميم والابتكار، إن إدارة النفايات هي واحدة من أهم القضايا البيئية التي يواجهها العالم اليوم، وتسهم تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحسين عملية الفرز من خلال روبوتات تعتمد على التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي لتصنيف المواد القابلة لإعادة التدوير من النفايات العادية.
وهذه الروبوتات تستخدم الرؤية الحاسوبية للتعرف على المواد وتحسين معدلات إعادة التدوير، لافتاً إلى أهمية هذه التقنيات لتعزيز مبادئ الاقتصاد الدائري، والتي تقلل العبء على مدافن النفايات.
وأكد أن المعهد يحرص على تنظيم معرض سنوي للخريجين يضم العديد من المشاريع البحثية والنماذج المبتكرة من إعداد الطلبة، حيث تعكس المشاريع المعروضة نهج المعهد في إيجاد حلول إبداعية ومبتكرة قائمة على البيانات وتثري المجتمعات والبيئة، انطلاقاً من الملابس متعددة الاستخدامات التي تم إنشاؤها باستخدام تقنيات قص ذكية للحد من هدر الأقمشة إلى النحت تحت الماء باستخدام صدف البلوتون لدعم الحياة البحرية.
وقال: بينما نتحرك نحو مستقبل يعتمد على الحلول التقنية، يظل الذكاء الاصطناعي أداة قوية لتحقيق الاستدامة، من خلال تسخير قدراته في معالجة البيانات وتحسين العمليات المختلفة، ويمكننا تحقيق قفزة نوعية نحو إدارة أفضل للموارد البيئية والاقتصادية، ويبقى التحدي في توجيه هذه التكنولوجيا بطريقة تضمن تحقيق الفوائد لجميع قطاعات المجتمع مع مراعاة الآثار البيئية والاجتماعية.
بدوره أوضح الدكتور يوسف عساف رئيس جامعة روشستر للتكنولوجيا بدبي، أن الذكاء الاصطناعي يعتبر مفتاحاً لإعادة تشكيل عملية الإنتاج في مجال الصناعة، لتكون أكثر استدامة وكفاءة، حيث تقوم الأنظمة الذكية بمراقبة سلاسل التوريد وتحسينها، مما يقلل من الفاقد في الموارد والمواد الخام، وعلى سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل بيانات الإنتاج لتحديد الفاقد وتقليل الهدر في المواد والطاقة والمياه.
وأضاف أن الذكاء الاصطناعي يستخدم كذلك في تصميم المنتجات بشكل أكثر استدامة من خلال تقنيات التصميم التوليدي، حيث يتم استخدام الخوارزميات لتحليل مجموعة كبيرة من المتغيرات والتوصل إلى التصميم الأكثر كفاءة في استهلاك الموارد، مما يؤدي إلى تقليل الفاقد وتحسين كفاءة استخدام المواد الخام.
من ناحيته قال الدكتور فارس هواري عميد كلية الإنسانيات والعلوم ومدير برامج التعليم العام في جامعه عجمان، «مع تزايد عدد سكان العالم، يواجه القطاع الزراعي تحدياً كبيراً يتمثل في ضرورة زيادة الإنتاج الغذائي مع تقليل الأثر البيئي، وتلعب تقنيات الذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في تحسين الزراعة، عبر ما يعرف بـ«الزراعة الذكية»، والتي تعتمد على تحليل البيانات الضخمة لتحسين قرارات الزراعة مثل توقيت الري، والتسميد، ومكافحة الآفات.
وأضاف أنه يمكن استخدام الروبوتات المدعومة بالذكاء الاصطناعي في الحقول لمراقبة المحاصيل بشكل مستمر، حيث يتم تحليل الصور الجوية من الطائرات بدون طيار أو الأقمار الصناعية لتحديد مناطق الأمراض أو نقص المغذيات، هذا التوجه يقلل من استخدام المبيدات والأسمدة الكيميائية بشكل كبير، مما يسهم في الحفاظ على البيئة وزيادة الإنتاجية بشكل مستدام.
بدورها أكدت الدكتورة نضال عبدالعزيز، أستاذ مساعد في العلوم الهندسية والفيزيائية. جامعة هيريوت وات دبي، أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة لتحقيق الكفاءة الاقتصادية، بل يمكن أن يكون حجر الزاوية لبناء مستقبل أكثر استدامة واستجابة للتحديات العالمية المتزايدة.
وقالت: إن تغير المناخ، واستنزاف الموارد، والتدهور البيئي، تهدد صحة الكوكب وبقاء الإنسان، مما يتطلب حلولاً مبتكرة، وهنا تبرز أهمية تسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي في التنمية المستدامة، مشيرة إلى أنه يمكنه التنبؤ بدقة بالحالة الجوية، وتحسين جدولة وتوزيع الطاقة المتجددة.
وبالإشارة إلى ظاهرة الاحتباس الحراري التي تؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى ما يزيد على 1.5 درجة مئوية، تتوقع الوكالة الدولية للطاقة المتجددة زيادة كبيرة في حصة الطاقة المتجددة العالمية من 16 % في عام 2020 إلى حوالي 77 % بحلول عام 2050، ويرجع ذلك إلى الهيمنة المتزايدة لتقنيات الطاقة النظيفة.
وأضافت أن مراقبة النظام البيئي الطبيعي والحفاظ عليه يعتمدان على الذكاء الاصطناعي بشكل كبير لتتبع أعداد الحياة البرية أو مستويات التلوث باستخدام طائرات بدون طيار مزودة بأجهزة استشعار تعمل بالذكاء الاصطناعي. وتقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بتحليل صور الأقمار الصناعية للكشف عن الأنشطة غير القانونية ومكافحة الأنشطة التي تضر بالغابات.
وشددت على أهمية الاستثمار في البحث والابتكار، في مجال الذكاء الاصطناعي، لبناء قدرات الطلبة في التعامل مع هذه التقنية، إلى جانب تدريب المهنيين مع إطلاع أصحاب القرار بالمخاطر والفوائد المرتبطة بها، مشددة على ضرورة وضع أطر الذكاء الاصطناعي الأخلاقية للتحكم في تطوير وتطبيق هذه التقنية بما يضمن خدمته للأهداف التنموية والمجتمعية.
تدريب وتأهيل
من جانبها أوضحت الدكتورة رهف عجاج، أستاذ مساعد في كلية العلوم الصحية في جامعة أبوظبي، أن دولة الإمارات رائدة في تسخير تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف المشاريع والقطاعات، مثل الصحة والنقل والتعليم والأمن الغذائي وغيرها.
ولفتت إلى حرص القيادة الرشيدة على أهمية تدريب وتأهيل القادة في كافة المؤسسات على التعامل مع الذكاء الاصطناعي إدراكاً منها لما يتطلبه المستقبل من مهارات تقنية تسهم في تحقيق الاستدامة في شتى القطاعات والمجالات في الدولة.
وقال الدكتور إبراهيم علي محمد، رئيس مجلس إدارة جمعية أصدقاء البيئة الإماراتية، إن الذكاء الاصطناعي يعزز توفير الحلول المبتكرة للتحديات العالمية المعقدة، مثل تفشي الأمراض، وفقدان التنوع البيولوجي، وتأثيرات تغير المناخ، مضيفاً أن هناك العديد من الاحتمالات الجيدة لتطبيق الذكاء الاصطناعي في البيئة.
كما هو الحال في تجميع البيانات الضخمة والعثور على الروابط المفقودة في الأنظمة البيئية المعقدة. وأكد أن التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي سيخدم أهداف الهيئات المعنية بالبيئة بهدف تحسين جهود حماية البيئة في شتى إمارات الدولة.
حيث ينبغي على تلك الجهات الحرص على تطوير آليات استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز قدرتها على تحقيق أهدافها نحو تحقيق مستقبل بيئي مستدام في دولة الإمارات بشكل عام.