لنا معشر الموريتانيين في الأعلام بدعة متجذرة و”علامة مسجلة”.. ذلك بأننا نكل قولبتها إلى الأطفال؛ يمرونها على ألسنتهم جزافا، ويمنحونها شكلها النطقي الذي إن قارب الأصل فرب رمية من غير رام، وإن خالفه فذلك نسخ لا محيد عن اعتماده، وعلم شهرة لا يمنع تداوله مسطور أوراق الحالة المدنية؛ فمرجعية نطق الأطفال المحرف واعتماده -في ضبط أسماء الناس- نابتة جرى بها العمل في بلادنا، وآبدة عمت بها البلوى، حتى لقد أصبح للشخص اسم رسمي ولقب محلي يحملهما سميه علما مزدوجا؛ فاللقب ثوب تخفف يلبسه للبيت والمجتمع، والاسم “بدلة رسمية” يرتديها للدولة والعالم!
وقد حل التلقيب محل التكنية عند الموريتانيين فأجروه مجراها استعمالا وتداولا، وربما غلب اللقب على الاسم الحقيقي (كما في حالة الكنية عند العرب الأولين، والشاميين حتى اليوم ولا سيما الفلسطينيين)، وذلك الاستعمال فرع عن عادة اجتماعية موريتانية، تتمثل في تجنب مناداة الوالدين -ومن في حكمهما- بالاسم الصريح مهابة وتأدبا، فيلجأ إلى اللقب، لأن في استخدامه مندوحة عن التصريح السافر..
ولما كان نطق الأسماء بطلاقة -دون تحريف- أمرا صعبا على الأطفال، جاءت الضرورة إلى اعتماد مخرجات محاولاتهم التي لا تأتي من الاسم بنسخة طبق الأصل؛ فقد تصادف أوائل حروف الاسم -لسهولة نطقها- وتحرف سائرها، وقد تنكسها، أو تخطفها خطفا، فيؤخذ “الاسم الاحتياطي” من حاصل المحاولة، التي قد تحول اسم أحمد إلى “امد”، وتصير ميمونة “امونة”، وقد تزل عن سواء سبيل التقليد النطقي، فتأتي بمسخ لا علاقة له بحروف الاسم المقلد!
ولا جرم أن حالة تفويض الأطفال صلاحية قولبة الأسماء ليست الرافد الوحيد لأزمة الأسماء عندنا، ولكنها المصدر الأول لظاهرة الأسماء المسلوبة المعنى (“اباه”، “اتاه”، “الداه”، “اماه”، “اناه”، “ابيه”، “ابوه”، “الدوه”، “اللوه”..)، ولعل هذا المظهر خاص بالحالة الموريتانية، وهو خلاف ما وضعت له أعلام الأشخاص أصلا؛ فقد كانت العرب تراعي المعنى في وضع أسماء المواليد، حتى عند توخي الغرابة؛ فكانوا يسمون أبناءهم على أسماء الجمادات والعجماوات، وكانوا يسمونهم بأسماء الحشرات والهوام، وأعضاء جسم الإنسان، كما كانوا يسمونهم بأسماء السباع المفترسة والجوارح الضارية، وغير ذلك من مظاهر الطبيعة والحياة والعادة!
التسمية.. غريبها ومستأنسها
وفي حالي التسمية: غريبها ومستأنسها، ظل للمعنى حضور مقصود لذاته، رغم عشوائية الدلالة. وقد ورثنا عنهم جمالية الأسماء وغرابتها (تحت سلطة المعنى)، ولكننا ابتدعنا سياسة النطق المجوف، الذي تتفاوت فيه درجة تنافر الإيقاع، وحدة وحشية الألفاظ، تبعا للزيادات الفرعية، فالعلم الشخصي الداه -مثلا- تحته متحورات كثيرة: الدداه، الدواه، الدناه، الداهي، الداهنه.. واسم “اباه” (بترقيق الباء وتفخيمها) تتفرع عنه شبكة نطق متعددة: “بباه”، “ابهاه”، “ابياه”، “آبياه”، “بيباه”… ورب اسم صار اسما مرارا، ضاحك من تزاحم التعديلات!
ومن تزاحم التحويرات نحت اسم محمد وتقليبه (محمد، محمدن، محمذن، محم، محنض)، ومن الحب ما أعمى وأصم وأوقع في الشطح!.. وربما احتفظوا به باقيا على صيغته الأصلية ثم شفعوه باسم آخر من أسمائه صلى الله عليه وسلم التي تجمع بين العلمية والصفة (محمد + الأمين، محمد + المصطفى، محمد + المختار..)، وقد يتخذون هذا التركيب وسيلة لتسمية الأشقاء بذلك الاسم الحظي الأثير (محمد)، دون أن يقعوا في حرج اللبس، ووحدة الاسم!
ومن الظواهر المتصلة بموضوع صياغة الأعلام الموريتانية ظاهرة التصرف في اسمي عبد الله وعبد الرحمن ضغطا واختزالا: “دحان”، “دحمان” (لعبد الرحمن)، “بلاهي” -بترقيق اللام وتفخيمها- “دلاه”، “دبلاهي”، وهو تحريف مثير ما غاب عنه الأطفال! وهذا الضغط والاختزال يذكر بصنيع الأندلسيين في تحويرهم وتصرفهم الذي ابتدعوا به أسماء: “حمدون”، “زيدون”، “حمود”، والعلم الأخير من أسماء الموريتانيين الشائعة!
على أن تحريفي “دحان” و”دحمان” تحويران مشتقان من اسم ذي دلالة؛ فهما -بذلك- خارجان عن دائرة غياب المعنى؛ إذ ليسا داخلين -تماما- في حيز الفوضى العشوائية التي مثلت لها بالأسماء المتقدمة (اباه والداه وفروعهما)؛ فالأسماء المعادة صياغتها من اسم محمد -مثلا- بعيدة عن متناول أيدي الأطفال، وكذلك مخترعات الأسماء الأخرى الغريبة، التي هي جهد من عمل الكبار، كصيغ الدعاء المعدول فيها عن الشخص المعني إلى غيره من ذوي قرابته، مثل “إسلم بوها”، “إسلم أخوالها”، “إسلم اخوتها”، وظاهرة الجمع بين التسمية والدعاء يساوى فيها -عادة- بين الذكر والأنثى مع مراعاة الضمير الفارق (“يحفظه”/ “يحفظها”، “ينجيه”/ “ينجيها”، “يسلم”/ “تسلم”) إلا في هذا الاسم/الدعاء؛ فإنه حين يطلق على الولد الذكر يكون -في الغالب- شخصيا مباشرا: “إسلم”، هكذا؛ دون ذكر أبيه أو خاله أو إخوته!
ومن تلك الأسماء الغريبة ما هو مأخوذ من اللغات المهجورة -الصنهاجية أساسا- كـ”ألفغ” (التي تعني: الفقيه)، و”أكتوشني” (أي: العالم والسيد).. وقد هبت علينا -مع الوقت- موجة توحيد الاسم وفك الازدواجية اللفظية من خلال حذف الجزء الأول منه، في بعض أعلامنا المحلية واسعة الانتشار: “محمد الأمين”، “محمد مولود”، “محمد يحيى”، “محمد الحافظ”.. أو حذف الجزء الثاني، كما هو شائع في اختصار اسم “سيدي محمد”.
ويبدو أن هذا الاختصار ليس خاصا بالحالة الموريتانية، فقد توسع فيه المشارقة، حيث اختصر المصريون -مثلا- اسمي عبد الناصر وعبد الحليم حافظ (اسما الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، والمطرب عبد الحليم حافظ) في كلمة واحدة: “ناصر”، “حافظ”، وسار الموريتانيون على منوالهم فاختزلوا اسم الرئيس الأسبق (محمد بن عبد العزيز) في كلمة واحدة “عزيز”!
ومع تجذر استعمالهم الأسماء العربية التراثية وقدم اعتمادهم إياها: معاوية، سعد، جعفر، عمر، ليلى، أسماء، الحسن، خديجة، ميمونة، فاطمة.. زحفت على الموريتانيين -تحت تأثير تيارات الانفتاح والسياسة والفن- موضة اعتماد الأسماء التي لم تكن مستخدمة قبل تحديث سجل التسميات القديم: ناصر، صدام، عرفات، فيصل، وفاء، انتصار، دعاء، فيروز، سميرة، نبيلة، صباح، صبحي، بديع، سامي..
ورغم بريق هذه الأسماء الحسنة وجماليتها المعنوية والإيقاعية، فإن منا من لم تزل تستهويه النسخ المحلية المسلوبة المعنى أو البادية الغرابة، نظرا إلى طابع خصوصيتها، وإلى ما تمثله من إيحاء نفسي، وظل عاطفي، أو ما تحمله من رمزية اجتماعية تجعلها مصونة عن النقاش والمراجعة!.. فكم حفيد راح ضحية اسم جده، لأن تلك التسمية اسم عائلي بمرتبة الثابت السيادي الذي لا يقبل المساومة! ورب ابن كان له اسم أنيق “عصري” غير متناسق “فنيا” مع اسم والده -أو جده المضاف إليه (في الأوراق الثبوتية)، “وللناس فيما يعشقون مذاهب”!
وإذا كانت محاكمة تلك الأسماء (مجوفها ومستوحشها وخشنها) غير موضوعية، أو لم تكن مراجعتها أولوية، فلا أقل من محاصرتها مستقبلا، في انتظار التخلص التدريجي منها؛ حتى لا يختلط النداء بأجمل الأسماء (الذي هو هدي نبوي) مع التنابز بالألقاب (الذي هو مخالفة منهي عنها شرعا)، وعندي أن بعض الأسماء المستخدمة -عندنا- يوقع في ذلك اللبس!..
ألا ما أحسن أن ينتقي الآباء لأبنائهم أجمل الأسماء معنى، ويتخيروا لهم أحلاها وقعا، وأن يحفظوا أسماءهم بعيدا عن متناول ألسنة الأطفال!