يثير القرار الروسي بعدم تجديد اتفاقية الحبوب قلق العالم، بالنظر إلى تبعاته الخطيرة المرتقبة، وهو ما عبرت عنه كثير من ردود الأفعال الصادرة عن منظمات وقوى دولية نددت بالقرار، من بينها الولايات المتحدة التي وصفته بـ«العمل الوحشي»، فيما حذرت الأمم المتحدة من تبعاته على ملايين البشر.

على الجانب الآخر، فإن روسيا تتبنى أسبابها التي تراها منطقية ومشروعة، بالنظر إلى أن تنفيذ الاتفاقية لم يخدم مصالحها، وبالتالي وضعت شروطاً من أجل العودة للاتفاقية، منها إزالة العقبات أمام البنوك والمؤسسات المالية الروسية التي تخدم عمليات توريد الأغذية والأسمدة، وبما يتضمن الدمج ضمن منظومة التعاملات المصرفية الدولية (سويفت)، وإعفاء توريدات الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية من العقوبات.

وخلال اجتماع حكومي، في وقت سابق من هذا الشهر، تحدث الرئيس فلاديمير بوتين، عن أهمية «حل القضايا المتعلقة بتأمين السفن والصادرات الروسية، واستئناف العمليات اللوجستية وضمان توريدات الأسمدة من روسيا دون عوائق». وتتهم موسكو الغرب بأنه يحاول الاستفادة من صادرات الحبوب من أوكرانيا، وبدلاً من مساعدة الدول الفقيرة يستخدم الغرب الاتفاقية كوسيلة للابتزاز السياسي، وإثراء الشركات متعددة الجنسية، بحسب بوتين.

ابتزاز سياسي

وترى موسكو أنها تتبنى شروطاً مشروعة، لا سيما لجهة أن الاتفاق قد نص على تصدير حبوب أوكرانية ومواد زراعية روسية (مثل الأسمدة)، إلا أن الغرب لم يسمح إلا بتصدير الحبوب الأوكرانية، ما كبد روسيا خسائر مليارية.

وعلى الجانب الآخر، يرى الغرب أن روسيا تستخدم الاتفاق وسيلة لـ «الابتزاز السياسي» من أجل رفع جزئي للعقوبات، لا سيما على النظام المصرفي والصادرات الزراعية.

بينما يعتقد مراقبون أن الاتفاقية تمثل ورقة ضغط يمكن أن تناور بها روسيا لإدراكها مدى أهمية تلك الاتفاقية بالنسبة لأوكرانيا وداعميها تتيح الاتفاقية (التي جرى توقيعها في يوليو 2022 بوساطة تركية ورعاية أممية لضمان وصول آمن للحبوب العالقة في الموانئ عبر البحر الأسود، ومن أجل تخفيف حدة أزمة الغذاء التي ضربت العالم تحت وطأة الحرب في أوكرانيا) التصدير الآمن للحبوب من الموانئ الأوكرانية المطلة على البحر الأسود (أوديسا وتشورنومورسك وبيفديني) عبر ممر إنساني متفق عليه باتجاه إسطنبول، وهناك يتم فحص السفن في طريقها من وإلى الموانئ الأوكرانية من جانب فريق خاص يضم مفتشين وخبراء من كل من روسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة، بموجب بنود الاتفاقية.

في هذا السياق، يقول المحلل السياسي الروسي، الدكتور محمود الأفندي، في تصريحات لـ «البيان»: إنها اتفاقية إنسانية بالأساس؛ من أجل خروج الحبوب إلى دول العالم الفقيرة، بينما وضعت روسيا شروطاً – خلال المفاوضات التي سبقت إقرار الاتفاقية – بالإضافة إلى شروط خاصة بإرجاع منظومة «السويفت» للبنك الزراعي الروسي (روس سيلخوز بنك)، وتشغيل خط الأسمدة (خط الأنابيب العملاق الذي يربط مدينة توغلياتي الروسية بميناء أوديسا الأوكراني المستخدم لتصدير الأمونيا، المكون الرئيسي للأسمدة).

ويضيف: «لم تطبق الاتفاقية بشكل كامل، فقد طبقت فيما يخص إخراج الحبوب، بينما فيما يتعلق بتفتيش السفن الفارغة كان هناك شك لدى روسيا بأنه يتم إدخال أسلحة عن طريقها»، موضحاً أن روسيا أعطت مهلة 90 يوماً للأمم المتحدة من أجل حل أزمة الصادرات الزراعية الروسية. وفي هذا السياق «صار الآن ممنوع دخول أية سفينة حبوب (..)».

وكان بوتين قدر خسائر روسيا بسبب الاتفاقية بحوالي 1.2 مليار دولار «تكبدها المزارعون الروس مع تراجع في ربحية الصادرات»، فيما أكد قدرة روسيا على استبدال الحبوب الأوكرانية، متوقعاً «حصاداً قياسياً» هذا العام.

شروط روسية

وحول الاشتراطات التي وضعها الرئيس الروسي، لا يعتقد الأفندي أن الغرب – وبوصفه خاضعاً لواشنطن – يستطيع فعل شيء، مشيراً إلى أن الرسائل الصادرة عن واشنطن تفيد أنه لا توجد رؤية لفعل شيء، إذ أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، عن أن الولايات المتحدة سوف تواصل العمل مع دول أخرى لضمان نقل الحبوب من أوكرانيا بعدما انسحبت روسيا من الاتفاق.

ويذكر أنه من ضمن البدائل التي يدفع بها البعض في هذا السياق عوضاً عن الاتفاقية، ما يرتبط بنقل الحبوب الأوكرانية براً، غير أن ذلك البديل يصطدم بصعوبات لوجستية مرتبطة في ضوء عدم توافر عدد كافٍ من الشاحنات.

ويضيف المحلل السياسي الروسي: «تسعى واشنطن لشيطنة روسيا والإيحاء بأنها تجوع العالم، وهذا الموقف سوف يستمر»، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة والغرب مستفيدان من الانسحاب الروسي من الاتفاقية، لأنه يوفر لهما «الاستمرار في الدعاية السلبية ضد روسيا»، ويعطي لأوروبا ذريعة أكبر للهجوم على موسكو، مع زيادة الشراسة الإعلامية والاتهامات الموجهة ضدها.

وذكر المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف، بعد عدم تجديد بلاده للاتفاقية، أن «ما حدث مع صفقة الحبوب ليس ذنب الأمم المتحدة التي نقدر عالياً دور أمينها العام في إبرام هذه الاتفاقيات ونقدر عالياً جهوده في محاولة إقناع الدول الأوروبية بالوفاء بالالتزامات، التي تعهدت بها.. للأسف، لم تلتزم الدول الأوروبية»، معبراً في الوقت نفسه عن استعداد بلاده تزويد «الدول المحتاجة» بالحبوب مجاناً.

وأعلن الرئيس الروسي، خلال القمة الروسية الأفريقية التي اختتمت أعمالها السبت الفائت في سان بطرسبورغ، عن أن موسكو مستعدة لتوريد الحبوب مجانا لست دول بالقارة السمراء في غضون ثلاثة أو أربعة أشهر، وهي بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا، بواقع من 25 إلى 50 ألف طن لكل منهم.

الأمن الغذائي

من برلين، يقول مؤسس مركز بروجن للدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية، رضوان قاسم، لـ «البيان»، إن العالم يعيش وضعاً صعباً من ناحية الأمن الغذائي، وفي ضوء تبعات أزمة تغير المناخ (..) فكيف إذا ما كان هناك عدم استقرار في توريد الحبوب (من روسيا وأوكرانيا تحديداً)؟! وبالتالي فإنه «عندما تتخذ روسيا مثل هذا القرار، فهذا يعني أن هناك مشكلة وأزمة كبيرة في تصدير الحبوب، ما يهدد الأمن الغذائي العالمي»، بحسب قاسم الذي يشير إلى أن موسكو من جانبها «استمرت طيلة الفترة الماضية بالالتزام باتفاقية تصدير الحبوب، لكن الجانب الغربي لم يلتزم بهذه الاتفاقية، والولايات المتحدة تريد أن تضيق الخناق على روسيا؛ وذلك بالسماح بالسفن وصادرات الحبوب الأوكرانية أن تستمر، فيما لا تريد التعامل أو تصدير الحبوب من روسيا، وهذا للضغط اقتصادياً على روسيا».

من هنا جاء ذلك القرار الروسي، فعندما شعر الروسي أن عدم التوازن في استمرارية هذه الاتفاقية سيؤثر بدوره اقتصادياً عليها اتخذت القرار بعدم السماح بأي من سفن الحبوب أن تخرج إلى العالم، وهذا بالتأكيد سيكون له تأثير كبير على العالم، ولا سيما الدول الفقيرة، ومن بينها دول أفريقية (مصر على سبيل المثال)، علاوة على ارتفاع أسعار المواد الغذائية التي لها ارتباط مباشر بهذه الصادرات.

ويضيف مؤسس مركز بروجن: «انهيار الاتفاقية سيكون له ارتداد سلبي على دول العالم كافة، وبما يعيق الوصول إلى حل إذا ما استمر القرار الروسي بعدم الاستمرار بهذا الاتفاق.. ومن ناحية أخرى، تتحمل الدول الغربية والولايات المتحدة المسؤولية أمام دول العالم في هذا الوضع؛ لأنهم هم من تراجعوا عن الالتزام ببنود الاتفاقية».

ويعلق على «الشروط» التي وضعتها روسيا لاستئناف الاتفاقية ومن بينها عودة منظومة السويفت، قائلاً: «روسيا تعرف أن الهدف الحقيقي وراء عدم الالتزام بالاتفاقية كان حصارها اقتصادياً، بينما يتم ترك الأبواب على مصاريعها أمام أوكرانيا لتعزيز قواها الاقتصادية على الجانب الآخر، ما دفع الرئيس بوتين لطرح هذه الشروط، لأنه لا يمكن لهذه الاتفاقية أن تستمر إلا بعودة المؤسسات المالية الروسية للمؤسسات الدولية لتسهيل المعاملات».

ويشدد قاسم على أنه «على الدول الأوروبية أن تعيد النظر في حساباتها إزاء الحرب في أوكرانيا، لا سيما لما لروسيا من تأثير كبير على الصعيد الأمني والاقتصادي والسياسي بهذه الدول، وبالتالي فالخاسر الأكبر هي تلك الدول، ومن بينها ألمانيا، لا سيما فيما يتعلق بملفات الطاقة (..)»، مردفاً: «لا أعرف إذا ما كانت هناك نية للتراجع الأوروبي، لكنهم يبدون إصراراً على معاقبة روسيا، وبالتالي فنحن ذاهبون إلى مزيد من الأزمات والتوترات على الصعيد السياسي والاقتصادي وربما العسكري (..)».

موقف الغرب

الأستاذ بكلية الاستشراق في مدرسة موسكو العليا للاقتصاد، رامي القليوبي، يقول لـ «البيان» إن الغرب ليس كياناً متجانساً، بينما يضم قوى مختلفة بعضها يدعو لتشديد اللهجة تجاه روسيا والبعض الآخر يدعو لنوعٍ من الحوار، وبالتالي من الصعب الحديث عن موقف غربي موحد، لكن بشكل عام «الغرب يسعى للحديث مع موسكو من موقع القوة، وبالتالي لا يتوقع أن يرضخ – بالمعنى الحرفي للكلمة – لناحية قبول الشروط الروسية للعودة لاتفاقية الحبوب».

لكنه يشير في الوقت نفسه إلى إمكانية الدفع بـ «حل وسط، مثلما تم الوصول إليها في وقت سابق في مسألة دفع قيمة الغاز الروسي بالروبل، عندما تم التوصل لحل وسط عن طريق فتح حسابات بالعملة الأجنبية في مصرف غازبروم، التابع لعملاق الغاز الروسي، ليحول المشترون قيمة الغاز بالعملة الأجنبية ثم تتحول في بورصة موسكو للروبل».

ويستبعد القليوبي إمكانية التوصل لحل وسط مماثل في مسألة فتح الأسواق الأوروبية والعالمية أمام الحبوب والأسمدة الروسية.

ويعتقد المدير العام لمركز التحليل السياسي والبحوث الاجتماعية، السياسي الروسي بافل دانيلين، بأن اتفاقية الحبوب عبر البحر الأسود «انتهت للأبد على الأرجح»، موضحاً في تصريحات خاصة لـ «البيان» إنه «حتى نهاية الأعمال العدائية لن يكون تصدير الحبوب من أوكرانا ممكناً إلا عن طريق البر»، على حد وصفه.

ولا يرى المحلل الروسي أن الغرب سوف يقدم أي تنازلات لروسيا في المستقبل القريب، موضحاً في الوقت نفسه أن روسيا يمكنها استبدال الحبوب الأوكرانية بالنسبة للذين يحتاجون الحبوب، وحتى بالمجان، كما أعلن بوتين.

شاركها.