لم يخطر في بال البريطانية، ثاي جافي، يوماً أنها ستضطر إلى اللجوء لبنك مخصص لمساعدة الأطفال، فقد كانت في الواقع تعمل سابقاً على توجيه الأمهات العازبات في مجتمعها المحلي إلى جمعية «ليتل فيلدج» الخيرية، التي توفر المستلزمات الأساسية للآباء الجدد غير القادرين على شرائها بسبب الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة، حيث تقدم الجمعية كل ما يحتاجه الطفل من عربات وأسرّة وملابس وحفاضات وألعاب وكتب.

لكن حين حملت جافي بطفلها الثاني بصورة غير متوقعة، وجدت نفسها عاجزة عن شراء الاحتياجات الأساسية.

وقالت في مقابلة مع «سي إن إن»: «من الصعب استقبال طفل جديد من دون ميزانية مناسبة»، مضيفة: «كنت أعاني الفقر قبل مجيء الطفل الثاني، لكنني لم أدرك إلى أي مدى ستزداد الأمور سوءاً معه. لقد تدهورت أوضاعي أكثر، فأنا أعمل بدوام كامل، ولا أستطيع تغطية نفقاتي».

مستويات غير مسبوقة

وقد وصل فقر الأطفال في المملكة المتحدة إلى مستويات غير مسبوقة في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع شبكة الأمان الاجتماعي، بعد سنوات من التقشف الحكومي وانحسار الخدمات العامة.

ومع هذا التراجع، تدخلت الجمعيات الخيرية مثل «ليتل فيلدج» للمساعدة، ولسد ما أمكن من الفجوات.

وتصدرت أزمة فقر الأطفال في بريطانيا المشهد أخيراً، حيث تطالب مجموعات ناشطة حكومة حزب العمال بمنح هذا الملف أولوية قصوى في الميزانية السنوية لتخفيض نسبة الفقر، لاسيما أن نحو ثلث الأطفال في المملكة المتحدة، أي ما يعادل 4.5 ملايين طفل، يعيشون تحت خط الفقر أو «فقر نسبي»، وفق تقرير حكومي حديث، حيث يقاس ذلك بالعيش في أسر يقل دخلها عن 60% من متوسط الدخل بعد خصم تكاليف السكن.

ومن بين هؤلاء، يعيش نحو مليون طفل في فقر مدقع، محرومين من حاجات أساسية، مثل الدفء والملابس والطعام، حسب دراسة أعدتها مؤسسة «جوزيف رونتري» المتخصصة في أبحاث الفقر واقتراح السياسات لمعالجته.

وقالت المديرة التنفيذية لجمعية «ليتل فيلدج»، صوفي ليفينغستون: «واجهنا عائلة تعتمد في غذائها فقط على رقائق الذرة والأرز». وأضافت: «لدينا الكثير من العائلات يعيشون في غرفة واحدة فقط، حيث كان يوجد فيها الكثير من العفن، ناهيك عن نوعية السكن البائسة، حتى عندما يكون لهذه العائلات مسكن».

خوف دائم

حتى العائلات القادرة على تأمين الاحتياجات الأساسية، فإنها تواجه صراعاً شهرياً مرهقاً دون أي ضمان مالي، في دولة تعد من الأكثر ثراء في العالم.

وقالت ليا، وهي أم لتوأم من الفتيات بعمر سبع سنوات، في حديثها لـ«سي إن إن» ضمن مشروع «تغيير الحقائق»، الذي يوثق حياة ذوي الدخل المحدود: «نعيش في خوف دائم، وهذا شعور صعب عندما يعتمد أطفالنا علينا».

وأضافت ليا: «يريد أطفالي أن يفعلوا ما يفعله أقرانهم، لكن ميزانيتنا لا تسمح بذلك، فبعد شراء الاحتياجات الأساسية، لا يتبقى أي مبلغ للأنشطة أو المتطلبات الإضافية».

ورغم أنها حاصلة على شهادة جامعية في القانون، وتعيش في هامبشير جنوب شرق بريطانيا، عادت ليا إلى العمل لفترة، لكنها كانت تُستدعى باستمرار بسبب المعاناة الصحية والسلوكية لإحدى بناتها، التي تعاني احتياجات معقدة، من بينها عسر القراءة، وتأخر في النمو. ومع تكرار هذه المشكلات، اضطرت في النهاية إلى ترك وظيفتها.

وتقول ليا: «أعيش على مبدأ الصمود. لقد نشأت في نظام رعاية، وأتذكر شعوري الدائم بالمعاناة والقلق. كنت أقول لنفسي: إذا تجاوزت ذلك فستسير الأمور على ما يرام، لكن الوضع لم يتحسن. وعلى الرغم من معرفتي بقدراتي، ورغبتي في أن أكون فرداً فاعلاً في المجتمع، أشعر دائماً بأن الطريق مليء بالصعوبات».

تكاليف مرتفعة

وبالنسبة للعائلات التي يعد دخلها فوق خط الفقر، خصوصاً في لندن، فإن تكاليف السكن ورعاية الأطفال تثقل كاهلها، بحيث لا يتبقى أي فائض لمصروفات أخرى.

ويذكر في هذا السياق أن 70% من العائلات التي تعيش في فقر، لديها ولد واحد على الأقل يعمل، كما أن كلفة رعاية الأطفال في المملكة المتحدة تعد من الأعلى بين الدول الغنية، حيث تصل إلى 25% من دخل الوالدين، و60% من دخل الأب أو الأم العازبة، وفق تقرير معهد الدراسات المالية لعام 2022.

مشكلة دائمة

وعلى الرغم من أن فقر الأطفال كان مشكلة دائمة في المملكة المتحدة، فإنه يشهد ارتفاعاً متسارعاً مقارنة بالدول الغنية الأخرى، فقد ارتفع بنسبة 20% بين عامي 2012 و2021، وفق تقرير لمنظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسف).

من جهتها، أفادت مؤسسة «ريزولوشن فاونديشن» البحثية، التي تعنى بمعايير المعيشة، بأن معدل فقر الأطفال في بريطانيا عام 2025 سيكون أعلى من جميع دول الاتحاد الأوروبي باستثناء اليونان، كما تتوقع أن ينضم نحو 300 ألف طفل آخرين إلى دائرة الفقر بحلول عام 2030 إذا لم يتم اتخاذ خطوات فعلية لمعالجة الأزمة.

ويعكس معدل الفقر المتصاعد في بريطانيا اتساع فجوة عدم المساواة في المجتمع، حيث يعيش نحو نصف الأطفال الفقراء في «مجتمعات السود»، مقارنة بـ24% من الأطفال الذين يعيشون في «مجتمعات البيض». عن «سي إن إن»


صراع شهري

تعمل البريطانية، ثاي جافي، المستفيدة من بنك «ليتل فيلدج» للأطفال، بدوام كامل في مجال حلول العملاء، وتكسب 45 ألف جنيه سنوياً (نحو 59 ألف دولار)، لإعالة نفسها وطفليها، وهو دخل يتجاوز متوسط الدخل في البلاد، لكنها رغم ذلك تقول إنها «تواجه صراعاً شهرياً لتسديد حاجاتها وحاجات طفليها، من دون القدرة على الادخار أو تلبية جميع احتياجاتهم». وبعد دفع الضروريات، مثل الإيجار ورعاية الأطفال والطعام والفواتير، لا يتبقى لها سوى 192 جنيهاً (250 دولاراً) شهرياً للطوارئ والاحتياجات غير المتوقعة، وتقول إن الأخطاء المتكررة في صرف الضمان الاجتماعي تجعل هذا المبلغ في كثير من الأحيان غير مضمون.


برنامج التقشف

برنامج التقشف الذي أدخله المحافظون حدّ من إعانات الأطفال. من المصدر

يقول أكاديميون ومدافعون عن حقوق الإنسان في المملكة المتحدة إن القرارات السياسية لعبت دوراً مهماً في فقر الأطفال أيضاً، فقد جرى تقييد الخدمات العامة في بريطانيا من قِبل الائتلاف الذي يقوده حزب المحافظين من يمين الوسط، والحكومة المحافظة التي تلته في السلطة من عام 2010 إلى عام 2024.

وباعتباره جزءاً من برنامج تقشف الحكومة، الذي كان يهدف إلى تخفيض الإنفاق، عشية أزمة عام 2008 المالية، أدخل المحافظون ثلاث سياسات «تعد مسؤولة إلى حد كبير عن زيادة فقر الأطفال في هذه الأيام»، وفق ما قاله الأستاذ الفخري للسياسة الاجتماعية في جامعة (يورك)، جوناثان برادشو، الذي عمل كأحد المستشارين الأكاديميين لاستراتيجية فقر الأطفال التي ستصدرها الحكومة الحالية».

وحدت هذه الإجراءات من قيمة الإعانات الاجتماعية التي يحق للأفراد المطالبة بها، وأولها وضع حد أقصى إجمالي للإعانات التي يمكن للأسرة الحصول عليها، وثانيها يحد من إعانات السكن، وثالثها تحديد حد أقصى لإعانة الطفلين، ما يعني أنه لا يمكن للوالدين المطالبة بأي شيء عن طفلهم الثالث أو اللاحق المولود بعد عام 2017.

وتقول الجمعيات الخيرية، وكذلك الأكاديميون، إن تحديد حد أقصى لإعانة الطفلين تحديداً، هو المسؤول إلى حد كبير عن ارتفاع معدلات فقر الأطفال في بريطانيا. وقال برادشو لـ«سي إن إن»: «لقد ظهرت معظم الزيادة في فقر الأطفال في العائلات الكبيرة».

من جهته، قال رئيس المحللين في مؤسسة «جوزفيف رونتري»، بيتر ماتجيك: «يظهر كل هذا انعدام المساواة في نظام الإعانات».

وعندما زار مبعوثا الأمم المتحدة، فيليب الستون، واوليفير دو شوتر، المملكة المتحدة في عامي 2018، و2023 على التوالي، أدان كلاهما الفقر الذي شاهداه هناك، ولاحظ شوتر أن الحكومة البريطانية منسجمة مع نموذج انعدام المساواة المتزايد الذي يمكن مشاهدته في دول غنية أخرى.


معالجة الأزمة

1745494

ميزانيات الأسر التي تعيش على خط الفقر أصبحت ضيقة للغاية. من المصدر

قال متحدث باسم الحكومة العمالية البريطانية الحالية، برئاسة كير ستارمر، التي وصلت إلى السلطة في يوليو الماضي، إن «كل طفل، بغض النظر عن خلفيته، يستحق أفضل بداية لحياته».

وأضاف لـ«سي إن إن»: «نحن نستثمر فعلاً مبلغ 500 مليون جنيه إسترليني من أجل تنمية الأطفال من خلال مراكز (بست ستارت فاميلي)، وتوسيع نطاق الوجبات المجانية في المدارس، وضمان ألا يبقى الأطفال الأكثر فقراً جائعين خلال فترة العطلات من خلال حزمة دعم جديدة للأزمات بقيمة مليار جنيه إسترليني».

وكانت معالجة أزمة فقر الأطفال من أولويات حكومة يسار الوسط، لكنها في الوقت ذاته تعد قضية تسلط الضوء على نقاط الضعف داخل الحكومة.

ومنذ وصول العماليين إلى السلطة، واجه ستارمر صعوبة في الموازنة بين تفويضه بالتغيير الذي جرى انتخابه على أساسه، وميله التقليدي للاستثمار في الخدمات العامة، مع ندرة الأموال المتاحة، وتعهده في بيانه الانتخابي بعدم زيادة الضرائب على العمال.

لكن بالنسبة للآباء والأمهات الذين يعيشون بالفعل على خط الفقر، فإن ميزانيات أسرهم أصبحت ضيقة للغاية لفترة طويلة جداً.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية الخيرية «ليتل فيلدج»، صوفي ليفينغستون، متذكرة أنها عندما بدأت أولاً وظيفتها رئيسة لهذه الجمعية الخيرية: «لم يعد لدى الناس أي قدرة على الصمود».

. 300 ألف طفل في بريطانيا متوقع انضمامهم إلى دائرة الفقر بحلول 2030.

. الفقر وصل إلى مستويات غير مسبوقة في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع شبكة الأمان الاجتماعي.

شاركها.