ظهر نمط مألوف ومحبط في العواصم الأوروبية، إثر خطة السلام المؤلفة من 28 بنداً، التي قدّمها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ويهدف من خلالها إلى وقف الحرب الأوكرانية التي بدأت منذ ثلاث سنوات، وأدت إلى سفك دماء مئات الآلاف من الأرواح.
وبعد قمة ترامب مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في ألاسكا، خلال أغسطس 2025، بدأ القادة الأوروبيون يُقدّمون دعماً لفظياً لجهود ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا، ويعملون في الوقت ذاته على تدمير أي مبادرة تنحرف عن أهدافهم غير القابلة للتحقيق، والمتمثلة في استسلام روسي كامل في أوكرانيا، على الرغم من أن موسكو لاتزال في موقف قوة ومنتصرة في هذه الحرب، حسب آراء العديد من المراقبين والخبراء.
ويبدو أن هدف الدول الأوروبية ليس التفاوض من أجل سلام يوقف سفك الدماء وتدمير البلاد، وإنما لتفريغ مقترحات السلام الأميركية من مضمونها، حتى تصبح غير مقبولة من موسكو ذاتها، وهذا من شأنه أن يضمن العودة إلى الوضع الافتراضي المتمثّل في حرب طويلة الأمد، لا نهاية لها، على الرغم من أن هذه الديناميكية تحديداً، في ظل واقع ساحة المعركة الحالي، تصب في مصلحة روسيا، وستكون هي المستفيدة أكثر من غيرها بهذا الوضع، وتزيد من استنزاف أوكرانيا.
وكان تجاوب الأوروبيين سريعاً مع مقترحات ترامب ومكشوفاً وفقاً لـ«بلومبيرغ»، فقد انضم كل من قادة بريطانيا كير ستارمر، وألمانيا فريدريش ميرتس، وفرنسا إيمانويل ماكرون، إلى الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في رفض العناصر الأساسية لخطة ترامب، وبدت برلين الزعيم المتشدّد بين الثلاثي الأوروبي، ويقال إنها تعمل على تطوير مقترحات مضادة أكثر انسجاماً مع موقف أوكرانيا. وفي هذه الأثناء، عرضت الممثلة العليا للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، الاستراتيجية الكبرى للكتلة لتحقيق السلام، وببساطة كانت الاستراتيجية مدمرة، وتتمثل أولاً في إضعاف روسيا، وثانياً دعم أوكرانيا، وهذا كل شيء، ومن غير الواضح ما هي طرق الدعم.
وسيبحث المرء عبثاً عن مخرج دبلوماسي، أو رؤية لهيكل أمني أوروبي مستقبلي، أو حتى إقرار أساسي بالتنازلات اللازمة لوقف القتل في «خطة السلام» هذه، لأنها ليست كذلك، إنها مجرد إشارات يمكن ترجمتها إلى صراع دائم على الأرض، مع مزيد من الدمار لأوكرانيا، وسفك مزيد من الأرواح من الطرفين، وتزايد مخاطر التصعيد وتوسع الحرب في أوروبا.
لكن ردة الفعل بسرعة للساسة الأوروبيين الرافضة لخطة ترامب باعتبارها «استسلاماً» تبدو مسألة مضللة وعبثية، ويقول الخبير الروسي، مارك غاليوتي: «على الرغم من أن الخطة ضعيفة، وغير كاملة، فإنها ليست دعوة لاستسلام أوكرانيا بهذه البساطة، كما يتم تصويرها وهي ليست نقطة بداية لشيء يمكن أن يوقف القتل، لكنها تبدو واعدة بالنسبة للطرفين».
ويكشف «التمعن» الجاد أن خطة السلام تهدف إلى سلام مستقر، وإن كان ناقصاً، وجيش أوكراني قوامه 600 ألف جندي، يتماشى مع ما يعتقده المحللون بأن كييف قادرة على الحفاظ عليه، وتكتيك مراوغ في التعامل مع الأراضي المحتلة في دونباس والقرم، ويتجنّب الاعتراف القسري – بحكم القانون – بالسيادة الروسية عليها، وآلية لتحويل 100 مليار دولار من الأصول الروسية المجمدة إلى إعادة إعمار أوكرانيا.
وعلى الأرجح ستكون مسألة التفاوض على الأراضي هي الأكثر تعقيداً خلال فترة المفاوضات بين الطرفين، للتوصل إلى اتفاقية نهائية، وعلى النقيض من ذلك، ينبغي ألا يكون طلب تخلي أوكرانيا عن عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عائقاً أمام التوصل إلى اتفاق.
فالقادة الأوروبيون الذين يعارضون خطة ترامب، يدركون تماماً أن أوكرانيا لن تنضم إلى «الناتو»، ويعود ذلك من ناحية إلى عدم استعداد الدول الأوروبية الرافضة لاتفاقية ترامب، للدفاع عن قضية انضمام أوكرانيا إلى الحلف بصورة مباشرة، وإظهار اهتمامهم بوجود كييف في الحلف، فما جدوى إطالة أمد الحرب بالإصرار على أمر يعلم الطرفان – أعضاء «الناتو» الحاليين وأوكرانيا – أنه لن يحدث.
إضافة إلى ذلك، فقد وردت معارضات من قبل الأوروبيين على مواد في خطة ترامب للسلام، تهدف إلى حماية الأقلية وحقوق الأديان للمجموعات المختلفة في أوكرانيا، وتنص هذه الخطة صراحة على أن معايير إعمال هذه الحقوق يجب أن تستند إلى أطر الاتحاد الأوروبي، لا إلى فرض روسي أحادي الجانب.
وعلاوة على ذلك، وباعتبار أوكرانيا مجتمعاً متعدد الأعراق والأديان، فإن حماية حقوق الأقليات استثمار طويل الأجل في أمنها، وينبغي أن يرحب به من يزعمون دعمها، وليس أن يعارضوه.
والأهم من ذلك، أن هذا الانفتاح الدبلوماسي المحتمل، لا ينبع من موقف ضعف روسي، فقد صرح بوتين بأن «الديناميكية الحالية على خط المواجهة تُفضي إلى تحقيق أهداف روسيا بالوسائل العسكرية».
ومع ذلك، وفي فرصة حاسمة، أكد بوتين أيضاً أن روسيا تلقت الخطة الأميركية المكونة من 28 بنداً، وأنها مستعدة للتفاوض على أساسها، وأقر بوتين بأن الخطة قد تشكل أساساً لتسوية نهائية، وهذا ليس مؤشراً على رفض الكرملين للدبلوماسية، رفضاً قاطعاً، بل هو مؤشر على اختبار إمكاناتها.
وتواجه أوروبا الآن خياراً صعباً، فهي يمكن أن تواصل طريقها الحالي، وتعمل على إبعاد الخطة عن مسارها، وتشجع كييف على تقديم مقترحات مضادة غير معقولة، على أمل إفشالها داخل واشنطن ذاتها.
لكن هذه المغامرة تحمل في طياتها مخاطرة كبيرة، فما هو الموقف إذا كان ترامب يستخدم خليطاً من الضغط والإقناع، ونجح في إقناع الرئيس زيلينسكي – الذي أضعفته فضائح فساد كبرى في محيطه – بأن قبول الخطة هو الخيار الأسهل لأوكرانيا.
وإذا وافقت كييف وانضمت موسكو، فإن أوروبا تصبح عرضة لإقصائها تماماً من التسوية التي تُنهي أكبر حرب في قارتها منذ عقود، ولأنها لم تقدّم أي بديل موثوق به، سوى مزيد من الحرب، سيتلاشى نفوذها، وستجبر على الامتثال لشروط اتفاق لم يكن لها دور في صياغته.
وفي محاولة واضحة لتجنّب هذا السيناريو، تحدث ميرتس مع ترامب، يوم الجمعة الماضي، في ما وصفه بأنه «اتصال جيد»، لكن دون الإدلاء بأي تفاصيل، نظراً إلى سرية المكالمة.
ويبقى أن نرى ما ستسفر عنه هذه المكالمة، لكن للمضي قدماً، من الضروري تذكر أن أي خطة واقعية، ستتطلب تنازلات مؤلمة، وسيظل التوصل إلى تسوية دائمة، مستحيلاً، طالما رفض أصحاب المصلحة الرئيسون في أوروبا، تجاوز استراتيجية تضعف طرفاً وتسلّح الآخر.
ومن خلال سعيها إلى تفريغ المفاوضات الجادة الوحيدة المطروحة من مضمونها، لا تحمي أوروبا، أوكرانيا، بل تحكم عليها بمزيد من سفك الدماء وتُفقدها أهميتها الاستراتيجية في الوقت الراهن.
وليس البديل لخطة ترامب حالياً، صفقة أفضل، بل حرب لا نهاية لها، ومن الواضح أن الخاسر فيها لن يكون روسيا، وستتحمل أوروبا عواقبها وحدها. عن «رسبنسبل ستيتكرافت»
• إذا وافقت كييف، وانضمت موسكو إلى خطة ترامب، فإن أوروبا تصبح عرضة لإقصائها تماماً من التسوية التي تُنهي أكبر حرب في قارتها منذ عقود.
• ردة الفعل بسرعة للساسة الأوروبيين الرافضة لخطة ترامب، باعتبارها «استسلاماً»، تبدو مسألة مضللة وعبثية.
