تشهد المدن التاريخية في العالم اكتظاظاً غير مسبوق بالمسافرين، حتى إن بعض الشواطئ لم تعد تظهر عليها الرمال، بسبب ازدحامها بالمناشف والطاولات والمظلات والكراسي التي يضعها السياح.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعرّض العديد من السياح أنفسهم للمضايقات نتيجة السلوكيات السلبية التي تصدر عن بعض الزائرين.
وقد يبدو هذا المشهد مألوفاً في رحلات الصيف المعتادة إلى المدن الأوروبية، التي عانت خلال السنوات الأخيرة ظاهرة «السياحة المفرطة»، مثل برشلونة والبندقية، حيث خرج السكان المحليون إلى الشوارع للاحتجاج على الأضرار الاجتماعية والبيئية التي خلّفتها الأعداد الكبيرة من السياح.
لكن هذه الظاهرة لم تعد مقتصرة على أوروبا، حيث بدأت آسيا بدورها تواجه المشكلة ذاتها، فقد بلغت أعداد الزوار في كثير من المناطق السياحية الآسيوية مستويات قياسية، ما أثر سلباً في حياة السكان المحليين، وألحق الضرر بالمواقع الطبيعية الخلابة التي كانت سبباً في جذب السياح أصلاً.
وقال محلل توجهات المستهلكين والسفر في كوالالمبور، غاري بورمان، عند سؤاله عن أبرز الوجهات المتأثرة: «بالي بالتأكيد من بين تلك المناطق، وكذلك كيوتو في اليابان، وربما جزيرة بوكيت في تايلاند أيضاً».
تركز السياح
ويرى الخبراء أن المشكلة ليست في قلة الأماكن المتاحة، فالقارة الآسيوية شاسعة، وتضم العديد من الوجهات التي لاتزال بحاجة إلى دعم اقتصادي من خلال السياحة، غير أن الإشكالية تكمن في تركز السياح في مواقع محددة داخل الدول ذاتها.
وتروي السائحة الأميركية شانون كلارك، تجربة زيارتها لليابان مع شقيقتها أخيراً، قائلة: «كانت كيوتو أكثر المدن ازدحاماً، وربما الأقل إرضاءً لنا خلال الرحلة».
ولتجنب الازدحام أثناء زيارة موقع أثري في مدينة فوشيمي التاريخية، اضطرت الشقيقتان للاستيقاظ في الخامسة صباحاً، وتقول شانون: «كان المكان شبه خالٍ عند وصولنا، لكن أثناء العودة شاهدنا حشوداً ضخمة من السياح تتدفق نحو الموقع»، وتضيف: «في بقية الرحلة كنا نسير بين الجموع الكثيفة في الشوارع والأسواق، وكل موقع تاريخي أو مقدس كنا نزوره كان يعج بالسياح غير اليابانيين الذين يرتدون (الكيمونو) والصنادل لالتقاط الصور ونشرها على (إنستغرام)».
نمو سريع
ويُرجع غاري بورمان تزايد أعداد السياح إلى أسباب عدة، أبرزها الارتفاع الكبير في الطلب بعد جائحة «كورونا»، وانخفاض أسعار تذاكر الطيران إلى وجهات آسيوية عدة، إضافة إلى نمو الطبقة المتوسطة في دول مكتظة بالسكان، مثل الهند والصين، ما زاد من رغبة الملايين في السفر، فضلاً عن إسهام الحملات الترويجية الجذابة من شركات السياحة في هذا الازدهار.
ووفقاً لتقرير اتحاد السفر لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، فقد شهدت السياحة في آسيا انتعاشاً لافتاً بعد فترة التوقف خلال الجائحة، وأظهر التقرير نصف السنوي أن منطقة شمال شرق آسيا، التي تضم الصين واليابان وكوريا الجنوبية، تصدّرت النمو بنسبة 20% خلال النصف الأول من عام 2025، حتى دول لم تكن وجهات سياحية تقليدية، مثل منغوليا، لوحظ فيها زيادة واضحة في أعداد الزوار.
وفي الوقت نفسه، تشهد منطقة جنوب شرق آسيا نمواً سريعاً في النشاط السياحي مع اقتراب موسم الذروة التقليدي، خصوصاً في فيتنام، حيث ارتفع عدد السياح الدوليين بنسبة 21% في الأشهر الستة الأولى من العام الجاري، وفق بيانات منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة.
إلا أن هذا النمو السريع، خلّف مشكلات ازدحام حقيقية في مواقع فيتنامية مدرجة على قائمة التراث العالمي لـ«اليونسكو»، مثل خليج «هالونغ» الشهير برحلاته البحرية، ومدينة «هوي آن» التاريخية ذات الأزقة الضيقة.
ويقول بورمان: «بمجرد أن يُدرج موقع ما على قائمة التراث العالمي، يتهافت الجميع على زيارته»، ويضيف: «فيتنام تحظى بإقبال واسع من السياح المحليين والدوليين على حد سواء، ومع تعداد سكان يبلغ نحو 100 مليون نسمة، يصبح الضغط السياحي فيها أمراً حتمياً».
تحديات
أما في تايلاند، فعلى الرغم من تراجع عدد السياح الدوليين بنسبة 6% العام الماضي، حسب الإحصاءات الرسمية، إلا أن الزائرين لا يلحظون ذلك في المواقع الشهيرة المكتظة، فقد أعلنت الحكومة في جزيرة بوكيت أخيراً عن خطط لمواجهة التحديات الناتجة عن الازدحام، مثل الاختناق المروري، ونقص المياه، إلى جانب مشكلات إدارة النفايات، والاستخدام الواسع للقنب بعد قانون عام 2022 الذي ألغى تجريم تعاطيه، ما أدى إلى انتشار الصيدليات والمقاهي التي تبيعه، خصوصاً في المناطق السياحية.
ويقوم العديد من الزوار بجولات ليوم واحد إلى الجزر المجاورة لبوكيت، مثل خليج «مايا» في جزر «في في»، الذي اشتهر بعد فيلم «الشاطئ» عام 2000 من بطولة ليوناردو دي كابريو. وعلى الرغم من مرور عقود على عرض الفيلم، لاتزال مياه الخليج الصافية وشاطئه الهلالي يجذبان عشاق المغامرة.
ويتذكر الرحالة الأميركي غابي جيمينز، زيارته إلى تايلاند مطلع العام الجاري، قائلاً: «قمنا بجولة بالقارب حول جزر (في في)، لكننا لم نكن وحدنا، فهناك مئات القوارب الأخرى تفعل الشيء نفسه. توقفنا في خليج مايا لزيارة قصيرة كان من المفترض أن تكون مدتها 10 دقائق، لكننا أمضينا ساعة كاملة نحاول شق طريقنا وسط الزحام للوصول إلى الشاطئ ثم العودة». عن «سي إن إن»
آثار سلبية
أفادت مؤسسة مجلة «Backpacker Network» و«South East Asia Backpacker»، الصحافية نيكي سكوت، بأن هناك ثلاثة آثار سلبية رئيسة تنتج عن التدفق السياحي المفرط، هي: تدمير البيئة المحلية نتيجة الضغط الهائل على الموارد الطبيعية، وتآكل الثقافة المحلية عندما يتم تكييف العادات والخدمات لتلبية رغبات السياح بدلاً من الحفاظ على الهوية الأصلية، إضافة إلى اختلال التوازن المجتمعي بسبب ارتفاع الأسعار، وتحول بعض المدن التاريخية إلى «منتجعات تجارية»، بدل أن تبقى مراكز ثقافية حية.
وقالت سكوت: «للأسف، يتعرض العديد من المناطق في آسيا لتأثيرات مدمرة، بسبب الأعداد الكبيرة من الزوار بطرق مختلفة ومتزايدة».
شكاوى من سلوك السياح
أكثر من 56 مليون سائح زاروا كيوتو اليابانية العام الماضي. من المصدر
لم تتأثر معظم المدن الآسيوية الكبرى بتدفقات الزوار بشكل كبير، حيث تستفيد سيؤول عاصمة كوريا الجنوبية، على وجه الخصوص، من موجة موسيقى «البوب» الكورية المستمرة، نظراً إلى امتلاكها البنية التحتية اللازمة لاستيعابهم.
لكن كيوتو اليابانية ليست محظوظة بهذا القدر، فوفقاً لمسؤولين، زار المدينة التاريخية ما يزيد على 56 مليون سائح دولي ومحلي في عام 2024.
وإضافة إلى تراجع التجربة السياحية، فإن ذلك يؤثر سلباً في الحياة المحلية.
وينزعج سكان هذه المدينة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 1.5 مليون نسمة، بشكل خاص من حشود السياح التي تملأ الشوارع والأزقة الضيقة في وسط المدينة، وازدحام القطارات والحافلات العامة التي يعتمد عليها السكان المحليون في التنقلات إلى العمل والدراسة.
واشتكى نحو 90% من سكان كيوتو الذين شملهم استطلاع أجرته صحيفة «يوميوري شيمبون» اليابانية من «السياحة المفرطة»، والازدحام الشديد. وكان أبرز الشكاوى يتعلق بالسلوك الوقح أو غير المحترم من جانب السياح الأجانب، الذين يبدو أنهم يعاملون كيوتو كأنها مدينة ترفيهية وليست مدينة قديمة ومهيبة وروحانية للغاية، بحسب ما أورده سكان في الشكاوى.
وقال الأستاذ المشارك في كلية الدراسات العليا للإعلام والاتصالات الدولية والسياحية في جامعة هوكايدو، يوسوكو أشيغورو: «يشير الطابع الوطني المحافظ التقليدي لليابان إلى وجود شعور بالارتباك بسبب فقدان التوازن عندما يكون واحد من كل ثلاثة أشخاص سائحاً أجنبياً»، مشيراً إلى أن السلطات أدخلت كاميرات الدارات المغلقة لمراقبة سلوك السياح، لكنه أكد أن هذا الإجراء لم يؤدِّ إلى حل جذري لمشكلة «السياحة المفرطة» في كيوتو وأماكن أخرى.
ولفت أشيغورو إلى أن التدابير الفعالة الوحيدة هي إقامة حواجز مادية للتحكم في تدفق السياح، وتحديد حدود الطاقة الاستيعابية.
حماية البيئة
تعد جزيرة بوراكاي في الفلبين من أجمل المواقع السياحية التي يقصدها الزوار من مختلف أنحاء العالم، إلا أنها أصبحت ضحية لشهرتها الواسعة كمقصد سياحي، فقد اضطرت السلطات الفلبينية إلى إغلاق الجزيرة أمام السياحة لمدة ستة أشهر في عام 2018، وذلك بهدف إعادة تأهيل المشهد السياحي، ومنح المواقع الطبيعية الشهيرة فيها، مثل شاطئ بوكا، فرصة للتعافي بعد سنوات من الاستخدام المفرط.
وبعد ذلك، أغلقت الجزيرة مرة أخرى لمدة عامين خلال فترة جائحة «كورونا».
واتخذت الحكومة الفلبينية جملة من الإجراءات التنظيمية الصارمة، فحددت الحد الأقصى لعدد السياح المسموح لهم بزيارة بوراكاي، وشددت على أهمية حماية البيئة، كما فرضت حظراً على جميع أماكن الإقامة غير المرخصة، وقد أفاد متجر الغوص المعروف في الجزيرة «نيو ويف دايفرز»، في وقت سابق من هذا العام، بأن هذه الإجراءات بدأت تؤتي ثمارها بوضوح، حيث انخفضت أعداد الحشود السياحية، وأصبحت مياه البحر أنظف بكثير، ما جعلها مثالية لممارسة أنشطة الغوص والغطس والسباحة.
ولم تكن الفلبين، الدولة الوحيدة التي تبنت مثل هذه السياسات، حيث اتبعت تايلاند استراتيجية مشابهة في خليج مايا، خلال السنوات القليلة الماضية، فقد حظرت هيئة المتنزهات الوطنية، النشاط السياحي في الخليج لمدة أربع سنوات متواصلة، وأصبحت الآن تفرض إغلاقاً سنوياً لمدة شهرين – عادة ما يكون في الفترة ما بين أغسطس وسبتمبر – للسماح للنظم البيئية البحرية والساحلية بالتعافي واستعادة توازنها الطبيعي.
ومع ذلك لاتزال التحديات قائمة أمام المسؤولين، إذ يواجهون صعوبات في ضبط أعداد الزوار والالتزام بالقيود الموضوعة، حيث يواصل العديد من السياح تجاوز القواعد والتعليمات المعلنة بوضوح، الأمر الذي يجعل تحقيق الاستدامة البيئية والسياحية تحدياً مستمراً يتطلب المزيد من الوعي والانضباط من الجميع.
. تزايد أعداد السياح يرجع إلى أسباب عدة، أبرزها الارتفاع الكبير في الطلب بعد «كورونا»، وانخفاض أسعار تذاكر الطيران إلى وجهات آسيوية.
. منطقة جنوب شرق آسيا سجّلت نمواً سريعاً في النشاط السياحي، حيث تشهد المدن التاريخية «اكتظاظاً» غير مسبوق بالزوار.
