عادة ما يكون رصيف الصيد في شاطئ غول بالسنغال يعج بالحياة، حيث تكتظ به النساء اللواتي ينتظرن عودة الصيادين، وعيونهن معلّقة على حصيلة صيد اليوم، حتى إن البحر نفسه يكاد يختفي خلف الزحام، لكن المشهد اليوم مختلف تماماً، فالهدوء يسود المكان، والرمال تغطيها بقايا الأصداف المكسّرة، والأكياس البلاستيكية الممتدة حتى حافة الماء.
وفي إحدى الليالي، هبّت عاصفة قوية مصحوبة بأمطار غزيرة غير معتادة على سواحل السنغال، لتشل حركة البحر، وتمنع الرجال من ركوب قواربهم الخشبية الصغيرة، المعروفة محلياً باسم «بيروغيس»، كما أغرقت بعض المنازل، وتحوّل الصباح التالي إلى يوم من العزلة، حيث بقيت النساء في منازلهن منشغلات بتنظيف ما خلّفته العاصفة، وترتيب بيوتهن المتضررة.
حياة صعبة
تبدو الحياة في السنغال أكثر هشاشة، وتزداد صعوبة يوماً بعد يوم، كما تصفها أداما فايا، وهي امرأة ريفية تبلغ من العمر 29 عاماً، إذ تقول: «كأن يداً خفية تمسك بكل شيء، فلا نملك سوى الانتظار». زوجها يعمل صياداً، لكنه حين يضطر لاستخدام الشباك الصناعية في عرض البحر يعود بصيد ضئيل لا يكفي قوت يومهم.
تعمل أداما في عيادة محلية صغيرة بمنطقتها الفقيرة، وهي من بين النساء اللواتي يلتقين دورياً بفريق من منظمة «إم إس آي» الدولية غير الحكومية، التي تتخذ من بريطانيا مقراً لها، وتُعنى بتقديم خدمات تنظيم الأسرة والإجهاض الآمن في 37 دولة حول العالم.
تزور هذه المنظمة المنطقة مرة كل شهرين لتقديم وسائل منع الحمل للنساء، في محاولة لحمايتهن من الحمل المتكرر الذي يهدد صحتهن ويستنزف أجسادهن. وتؤكد فايا: «حين تستطيع المرأة تنظيم فترات إنجابها، تصبح أكثر قدرة على العمل والاستقلال الاقتصادي، دون انتظار ما يجود به البحر أو مساعدة الرجال».
تقليص المساعدات
لكن هذا الشريان الحيوي بات مهدداً، بسبب تقليص المساعدات الدولية، ففي قاعة الانتظار داخل العيادة المتواضعة، تجلس النساء على مقاعد خشبية بسيطة، يستمعن إلى القابلة آمي مباي، البالغة من العمر 28 عاماً، والمسؤولة عن المركز الصحي منذ ما يقارب من 10 سنوات، وهي تقول: «النساء هنا محاربات بحق».
وتوضح مباي أن معظم النساء في المنطقة يمررن بتجارب حمل متكررة، تصل إلى تسع أو 10 مرات، تتخللها في كثير من الأحيان حالات إجهاض أو ولادة جنين ميت.
وتعدد المخاطر الصحية المترتبة على ذلك، من فقر الدم الحاد، إلى مضاعفات الإجهاض، وحتى وفيات الأمهات، وتشير إلى أنه بسبب تجريم الإجهاض في السنغال، يلجأ العديد من النساء إلى ممارسات سرية خطرة تهدد حياتهن.
وتضيف مباي: «كل شيء هنا مرتبط بالبحر، فحين لا يكون هناك صيد، لا تكون هناك حياة. نطلب من النساء القدوم للفحص، فيرددن بأن ليس لديهن كلفة المواصلات، فالصيد ضعيف، والبيت يحتاج إلى طعام». وتؤكد أن منظمة «إم إس آي» هي الوحيدة التي تواصل دعمها للمجتمع رغم ضعف التمويل.
فقر
في بلد مثل السنغال، الذي يعيش فيه أكثر من 19 مليون نسمة تحت وطأة الديون والفقر وقلة الموارد، تبدو الرعاية الصحية رفاهية نادرة.
العيادة المحلية نفسها تكافح لتوفير أبسط المستلزمات، فالقفازات الطبية نادرة، والمبنى متهالك تتساقط مياهه من السقف، ومع ذلك، فهو الملاذ الوحيد لنحو 28 ألف نسمة، بينهم 7000 امرأة في سن الإنجاب.
من جهتها، تشارك كومبا دينغ، صاحبة مطعم عمرها 52 عاماً، الإحساس ذاته بالضيق، حيث تقول بحزن: «كنا في الماضي نتناول وجبتين كاملتين يومياً، أما الآن، فمرة واحدة تكفينا». وتشير إلى أن معظم زبائنها باتوا يطلبون وجبة «الفوندي»، وهي عبارة عن عصيدة تُعد من أرخص الأطعمة، تقدمها للرجال لدى عودتهم من الصيد في البحر.
وتضيف دينغ: «بلدتي في طريقها نحو مزيد من الفقر، ففي الماضي، كان الناس يتناولون ما يشتهون من الأطعمة، لكن حالياً لا شيء».
وتتذكر دينغ بحنين أيام التسعينات من القرن الماضي، حين كان جيرانها الصيادون يقدمون لها سمكهم بسخاء دون مقابل. أما الآن، فتضطر لشراء السمك بأسعار مرتفعة لتحضير وجبة «ثيبودين»، الطبق الوطني الشهير من الأرز والسمك.
تنظيم الحمل
لدى دينغ سبعة أطفال، لا يفصل بين كل منهم سوى تسعة أشهر تقريباً، وتقول إن تعاقب الحمل دون وجود فترة استراحة، أثّر سلباً في صحتها، فباتت تعاني ارتفاع ضغط الدم، كما تشعر بالضعف.
وبعد فترة قصيرة من إنجاب طفلها الأصغر قبل ست سنوات، قدمت لها منظمة «إم إس آي» جهازاً لمنع الحمل، وتؤكد أنه لولا مساعدة هذه المنظمة لتعين عليها أن تدفع 20 جنيهاً إسترلينياً من أجل الاستشارة الطبية، وتكاليف جهاز منع الحمل، وهو أكثر مما تجنيه خلال أسبوع كامل.
وتقول دينغ: «حياتي تغيّرت تماماً، فقد أصبحت قادرة على العمل بثقة، حصلت على قرض بقيمة 400 جنيه لتوسيع مطعمي، وسددت معظمه.. أصبحت أقوى، أطهو أكثر، وأبيع أكثر».
قلق
تدير منظمة «إم إس آي» برنامجاً بتمويل بريطاني يُعرف باسم «الصحة الجنسية المتكاملة للمرأة»، ويُنفذ في عدد من الدول الإفريقية، منها السنغال، ومالي، والنيجر، وتشاد، وموريتانيا، والكونغو الديمقراطية، بميزانية بلغت 60.9 مليون جنيه إسترليني، للفترة بين عامي 2018 و2024.
غير أن البرنامج تأثر سلباً بعد خفض المساعدات في عهد الحكومة البريطانية السابقة، حيث انخفض التمويل السنوي من 30 مليون جنيه إلى 6.7 ملايين فقط، ما قلّص عدد الدول المستفيدة من 12 إلى ثماني دول، وتراجع عدد النساء المستفيدات من مليوني امرأة إلى 200 ألف فقط.
وحالياً، ومع إعلان الحكومة البريطانية الجديدة نيتها خفض ميزانية المساعدات مجدداً لمصلحة الإنفاق الدفاعي، هناك قلق في السكان في السنغال وبقية الدول الذي يساعدها البرنامج، من مستقبل أكثر قتامة.
عن «الغارديان»
صمود
يعتمد برنامج «الصحة الجنسية المتكاملة للمرأة»، الذي تديره منظمة «إم إس آي» غير الحكومية بتمويل بريطاني، على جهود المتطوعين المحليين في السنغال، الذين يطرقون الأبواب لإقناع النساء وأزواجهنّ بأهمية تنظيم الحمل، والفاصل الزمني بين الولادات. لكن في مجتمع يعتمد في بقائه على البحر، يبدو أن أمواجه لم تعد تترك للنساء سوى خيار واحد: الصمود في وجه العاصفة.
المباعدة بين فترات الحمل
فاي ترغب في فترة راحة ل 3 سنوات قبل التفكير في إنجاب المزيد من الأطفال. من المصدر
في السنغال، ينشط القائمون على برنامج «إم إس آي» بشكل مباشر داخل المجتمع، حيث يقومون بالتجوال من منزل إلى آخر بين أفراد المجتمع الموثوق بهم، بهدف البحث عن النساء اللواتي يمكنهن الاستفادة من الخدمات الصحية التي يقدمها البرنامج. خلال هذه الجولات، يتحدث الفريق مع النساء وأزواجهن لتوضيح الفوائد الصحية للمباعدة بين فترات الحمل، وهو أحد الأسس التي يؤكد عليها البرنامج للحفاظ على صحة المرأة.
ويشير القائمون على البرنامج إلى أن المباعدة بين فترات الحمل تساعد النساء على تقليل المخاطر الصحية المرتبطة بالولادة المتكررة. هذا الأمر يبدو بالغ الأهمية، خصوصاً في ظل غياب التأمين الصحي أو الرعاية الطبية المجانية التي يمكن للمرأة أن تعتمد عليها في حال تعرضها لأي مرض. وفي بعض الحالات، قد تُقام جلسات جماعية على الرصيف لتقديم المساعدة، إلا أن الواقع يفرض على الجميع مواجهة التحديات الصحية بأنفسهم.
وتقول الشابة السنغالية أداما فاي، إنها لم تكن تعرف عن الخيارات الحديثة لوسائل منع الحمل إلا عندما خضعت لفحص ما بعد الولادة، خلال الأسبوع الماضي، في منظمة «إم إس آي».
فاي لديها طفلان، أحدهما في السادسة والآخر في الثالثة من العمر، وترغب في الحصول على فترة راحة مدتها ثلاث سنوات قبل التفكير في إنجاب المزيد من الأطفال.
وبعد التعرف إلى وسائل منع الحمل المختلفة، أصبحت فاي الآن قادرة على حماية نفسها لمدة تصل إلى 10 سنوات باستخدام الأساليب المتاحة. وعلى الرغم من أنها لا تعمل حالياً، إلا أنها كانت تعمل خادمة في الماضي، وتأمل أن تساعدها وسائل منع الحمل على إيجاد فرصة عمل جديدة، ربما في مجال المبيعات، حيث تقول بثقة: «أنا بارعة في بيع الأشياء».
وتتحمل فاي مسؤولية إعالة أسرة كبيرة، تشمل أطفالها، ووالدتها، وإخوتها وأخواتها، إضافة إلى دعم زوجها.
وتستفيد 45 امرأة وفتاة يومياً من أحد أشكال وسائل منع الحمل في العيادة، مع اختيار معظم النساء الأساليب طويلة الأمد التي توفر حماية لسنوات عدة. كما تخضع 18 امرأة وفتاة إضافية لفحص سرطان عنق الرحم كجزء من الخدمات الصحية المقدمة.
وعلى الصعيد الوطني، وضعت حكومة السنغال أهدافاً طموحة لتعزيز الصحة الإنجابية، وتشمل هذه الأهداف تقليل معدل وفيات الأمهات، وزيادة نسبة النساء اللاتي يستخدمن وسائل منع الحمل الحديثة من 27% إلى 46% بحلول عام 2028، ضمن خطة شاملة لتحسين الرعاية الصحية للنساء، وتعزيز قدرتهن على التحكم في صحة أسرهن ومستقبلهن.
فجوة تمويلية

قضية تنظيم الأسرة في السنغال تمتد إلى تحسين جودة الحياة. من المصدر
في مكتبه بالعاصمة السنغالية داكار، يؤكد رئيس قسم صحة الأم والطفل، الدكتور أمادو دوكوري، أن هناك خططاً لزيادة الموارد المخصصة لهذا القطاع الحيوي، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى أن هذه الجهود المحلية وحدها لا تكفي، قائلاً: «حتى مع توافر الموارد المحلية، لانزال بحاجة إلى دعم الشركاء، فالأمر في نهاية المطاف يتعلق بإنقاذ الأرواح».
من جانبه، يقول المدير الإقليمي لمنظمة «إم إس آي» البريطانية، إيمانويل ديوب، إن تقليص المساعدات الدولية، لاسيما تلك المقدمة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، قد ترك أثراً ملموساً في البلاد، حيث تسبب في فجوة تمويلية كبيرة، دفعت منظمة «إم إس آي» إلى التدخل لمحاولة تعويض هذا النقص.
ويضيف ديوب أن الوكالة الأميركية كانت تتحمل مسؤولية توفير الجزء الأكبر من سلسلة إمدادات وسائل تنظيم الأسرة، ووسائل منع الحمل، إلا أن توقف دعمها أدى إلى نفاد كميات كبيرة من هذه الوسائل الحيوية في مختلف المناطق. ويؤكد أن قضية تنظيم الأسرة في السنغال لا ترتبط فقط بإنقاذ الأرواح وحماية صحة النساء، بل تمتد أيضاً إلى تحسين جودة الحياة، حيث تسهم في توفير الوقت للنساء للعمل والإنتاج وبناء مستقبل أفضل لأسرهن. ويشير إلى أن المرأة التي لديها خمسة أطفال أو أكثر «لا ينبغي أن تُضطر لإنجاب طفل آخر في ظروف معيشية صعبة»، مشدداً على أهمية دعم النساء، وتمكينهن من اتخاذ قرارات تتعلق بصحتهن ومستقبلهن الأسري.
. أداما فايا: حين تستطيع المرأة تنظيم فترات إنجابها، تصبح أكثر قدرة على العمل والاستقلال الاقتصادي، دون انتظار الصيد أو مساعدة الرجال.
. برامج منظمة «إم إس آي» الدولية غير الحكومية، التي تُعنى بتقديم خدمات تنظيم الأسرة، تأثرت سلباً بنقص التمويل.
