يبدو أن التسوية النهائية للحرب الروسية الأوكرانية لاتزال بعيدة المنال، خصوصاً بعد فشل انعقاد القمة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب، والروسي فلاديمير بوتين. ومع ذلك، يبدو أن الوقت أصبح مناسباً للنظر في كيفية جعل أي تسوية مستقبلية تصب في مصلحة الولايات المتحدة، سواء في ما يتعلق بأمن أوروبا أو بعلاقاتها مع روسيا.

وكما كانت الحال خلال الحرب الباردة، تعاملت سياسة الاحتواء مع روسيا على أنها خصم عنيد يسعى إلى تحقيق طموحات جيوسياسية لا يمكن التسامح معها داخل أوروبا وخارجها.

وانطلاقاً من رؤية الدبلوماسي الأميركي جورج كينان، الذي كان مستشاراً لوزارة الخارجية بين عامي 1949 و1951، فإن كبح الطموحات التوسعية لروسيا سيؤدي في النهاية إلى إضعاف أسس النظام القائم فيها، ما يفتح الطريق أمام ظهور «روسيا جديدة» تكون أكثر انسجاماً مع القيم الغربية، وقد تصبح شريكاً محتملاً للولايات المتحدة.

ويعيد هذا المنطق نفسه في التعامل مع الأزمة الحالية، حيث يُفترض أن منع روسيا من تحقيق طموحاتها التوسعية سيؤدي في النهاية إلى إحداث تحول داخلي فيها يجعلها أكثر توافقاً مع النظام الدولي الغربي.

منافس دائم

في المقابل، تقوم استراتيجية التعايش التنافسي على فرضية مغايرة تماماً، حيث ترى أن روسيا منافس دائم لا يمكن للغرب تغيير نظامه السياسي أو عقيدته الاستراتيجية، سواء بالضغط أو الإغراء، وتتمثّل مهمة السياسة الخارجية الأميركية، وفق هذا المنظور، في إدارة المنافسة مع موسكو بمسؤولية، لتفادي مواجهة عسكرية مباشرة قد تكون كارثية على الطرفين.

وعلى الرغم من الاختلاف الجوهري بين النهجين، فإنهما يشتركان في هدف أساسي، هو الحفاظ على سيادة أوكرانيا، ومنع روسيا من شن حروب جديدة على جيرانها، إلا أن الخلاف بينهما يتمثّل في كيفية معالجة القضيتين الجوهريتين في الصراع: ضمان الأمن لأوكرانيا، والتعامل مع الأراضي المتنازع عليها.

السيادة ومقاومة العدوان

وفقاً لمنطق الاحتواء، يجب على الولايات المتحدة أن تدعم مبدئياً حق أوكرانيا في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حتى لو بدا هذا الخيار بعيد المنال حالياً، ولا ينبغي وضع أي قيود على التعاون الأمني بين أوكرانيا و«الناتو» أو مع الحلفاء الغربيين، كما يجب رفض أي ضغوط أو اعتراضات روسية على ذلك.

وتتمسك سياسة الاحتواء بضرورة الحفاظ على سيادة أوكرانيا ضمن حدودها المعترف بها دولياً عام 1991، وترفض أي تسوية سياسية تشرعن السيطرة الروسية على الأراضي التي استولت عليها منذ عام 2014. ويمكن قبول السيطرة الروسية على بعض المناطق كأمر واقع مؤقت، على أن تدعم الولايات المتحدة أوكرانيا سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً في مساعيها إلى استعادتها مع مرور الوقت.

هذه السياسة تلبي متطلبات الدفاع عن السيادة ومقاومة العدوان من منظور أخلاقي وقانوني، لكنها ليست بلا ثمن، فحرمان روسيا من أي مخرج يحفظ ماء وجهها أو ضمانات أمنية لها، قد يؤدي إلى إطالة أمد الحرب، بينما قد تترتب على فرض عقوبات إضافية تداعيات اقتصادية وأمنية طويلة المدى، منها ترسيخ ملامح «حرب باردة جديدة»، وزعزعة استقرار أوروبا، وفرض أعباء قاسية على أوكرانيا نفسها، وهي الدولة التي يفترض أن هذه السياسة تهدف إلى حمايتها.

الحياد المسلح

على النقيض، تدعو سياسة التعايش التنافسي، أوكرانيا إلى تبني موقف «الحياد المسلح»، كوسيلة للحفاظ على سيادتها، وفي الوقت ذاته مراعاة المخاوف الأمنية الروسية، ووفقاً لهذه الرؤية، تتخلى كييف عن فكرة الانضمام إلى «الناتو»، وتتعهد بعدم استضافة قوات أجنبية على أراضيها، مع استمرار تطوير قدراتها الدفاعية الذاتية عبر استثمارات وتكنولوجيا غربية.

وتقترح هذه الاستراتيجية فرض قيود متبادلة على القدرات العسكرية لكل من أوكرانيا وروسيا ضمن منطقة محددة على طول الحدود المشتركة مع روسيا وبيلاروسيا، بما يضمن توازناً مستقراً للقوة بين الطرفين.

أما في ما يتعلق بالأراضي المتنازع عليها، فترى هذه المقاربة قبول السيطرة الروسية الفعلية على بعض المناطق دون الاعتراف بها قانونياً، مع التوجه نحو تسوية قائمة على مبدأ تقرير المصير المحلي، تتيح لسكان هذه المناطق تحديد مستقبلهم السياسي عبر عملية ديمقراطية بإشراف دولي.

ويُنظر إلى هذه المقاربة بوصفها براغماتية أكثر من كونها مبدئية، حيث تعترف بأن أمن أوكرانيا يعتمد في النهاية على توازن القوى، والتزام الغرب الأخلاقي المستمر تجاهها.

إطار أكثر واقعية

يظل خيار الاحتواء مرغوباً من حيث المبدأ، لأنه يعكس ثقة الولايات المتحدة بقيمها الأخلاقية وقوتها كدولة عظمى قادرة على قيادة النظام الدولي، كما كانت الحال بعد نهاية الحرب الباردة. غير أن العالم اليوم تغيّر، ولم تعد واشنطن قادرة على فرض إرادتها على الآخرين كما في الماضي.

في المقابل، تقدم سياسة التعايش التنافسي إطاراً أكثر واقعية لإدارة التوترات مع روسيا في ظل نظام دولي متعدد الأقطاب، حيث تواجه الولايات المتحدة منافسين لا يمكنها التغلب عليهم بالكامل.

ولا تعني هذه السياسة استرضاء المعتدين أو مكافأتهم، بل تسعى إلى احتوائهم عبر التوازن وضبط النفس والدبلوماسية.

وفي نهاية المطاف، يتعين على الولايات المتحدة الاختيار بين سياسة الوضوح الأخلاقي، وأخرى يمكن أن تحقق النجاح. وتقدم سياسة التعايش التنافسي، على الرغم من كل الغموض والنواقص التي تكتنفها، المسار الأكثر ضمانة للسلام في أوروبا. عن «ناشيونال إنترست»

• «التعايش التنافسي» استراتيجية ترى أن روسيا منافس دائم لا يمكن للغرب تغيير نظامه السياسي أو عقيدته الاستراتيجية سواء بالضغط أو الإغراء.

• «الاحتواء» يظل مرغوباً من حيث المبدأ، لأنه يعكس ثقة الولايات المتحدة بقيمها الأخلاقية وقوتها كدولة عظمى قادرة على قيادة النظام الدولي.

شاركها.