تصدّر الرئيس البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، عناوين الصحف في جاكرتا، خلال لقائه الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو، أخيراً، في زيارة رسمية شملت ملفات الاقتصاد والصناعة والجغرافيا السياسية.
وخلال الزيارة التي استمرت يومين، تم توقيع ثماني مذكرات تفاهم بلغت قيمتها نحو ستة مليارات دولار، تناولت مجالات التجارة، والتعاون في المعادن الحيوية، والعلاقات الدفاعية والصناعية، إلى جانب الزراعة. وقد شكلت هذه الزيارة نموذجاً واضحاً لتنامي الشراكة بين دول الجنوب، وتشكيل تحالف جديد يجمع بين اثنتين من أكبر الأسواق الناشئة في العالم.
وعلى الرغم من أن الزيارة بدت للوهلة الأولى زيارة بروتوكولية تقليدية تتخللها المصافحات، والجولات الميدانية، والتقاط الصور الرسمية، فإن نظرة أعمق تكشف عن بعدها الاستراتيجي في عالم يتجه نحو التعددية القطبية.
وتسعى البرازيل إلى تنويع شراكاتها في القارة الآسيوية، بينما تتطلع إندونيسيا إلى جذب استثمارات صناعية تخلق فرص عمل محلية، وتُعزّز عمليات التصنيع ونقل التكنولوجيا.
ومن هذا المنطلق، تمحور اللقاء بين الرئيسين البرازيلي والإندونيسي، حول ثلاثة مسارات مترابطة: إعادة هيكلة التجارة عبر تعزيز الوصول إلى الأسواق وتجارة القيمة المضافة، والتعاون الصناعي في مجالي المعادن والإنتاج الدفاعي، إضافة إلى البعد الجيوسياسي المتمثّل في التعاون بين «دول البريكس»، والتمويل بين بلدان الجنوب.
آفاق جديدة
وتبرز أربعة أسباب رئيسة جعلت جاكرتا محطة لولا الأولى في آسيا، بدلاً من أي عاصمة أخرى مثل كانبيرا الأسترالية، أو دول رابطة «آسيان» المجاورة. فإندونيسيا تُعدّ العمود الفقري لرابطة دول جنوب شرق آسيا، وأكبر اقتصاد في المنطقة، وأكثرها سكاناً، كما تمثّل المحور الدبلوماسي الذي تسعى القوى الدولية والإقليمية إلى التقرّب منه للوصول إلى أسواق جنوب شرق آسيا.
ومن منظور برازيلي، فإن اتفاقاً متيناً مع جاكرتا يفتح الباب أمام فرص اقتصادية أوسع في المنطقة، على نحو يفوق أي اتفاق ثنائي مع أستراليا.
ويضاف إلى ذلك انضمام إندونيسيا أخيراً إلى مجموعة «دول البريكس»، وتعاونها مع بنك التنمية الجديد، ما يجعلها شريكاً طبيعياً للبرازيل، ضمن جهودها لتعزيز التواصل بين دول الجنوب.
كما تتيح هذه العضوية آفاقاً جديدة للتمويل والتعاون في مشروعات صناعية مشتركة، ما يحول اللقاءات الدبلوماسية إلى مسارات عملية للتنمية والاستثمار طويل الأمد.
ومن الجوانب الأخرى المهمة تكامل القدرات بين البلدين، فإندونيسيا تمتلك ثروات معدنية هائلة تشمل النيكل والمنغنيز وفرصاً واعدة في الصناعات التحويلية، بينما تتميز البرازيل بقاعدة صناعية متقدمة في مجالي الدفاع والفضاء، وخبرة كبيرة في التصنيع الزراعي. ويمنح هذا التكامل الطرفين فرصة لتحقيق استفادة متبادلة.
رسالة واضحة
وعلى خلاف بعض الشركاء التجاريين الذين يقتصر عرضهم على الجانب الاقتصادي، وضعت البرازيل على الطاولة مقترحات لنقل التكنولوجيا والإنتاج المشترك، وهي الصيغة التي تبحث عنها جاكرتا، لتحقيق قيمة مضافة محلية حقيقية.
وتسعى جاكرتا وبرازيليا إلى توسيع هامش المناورة في ظل المنافسة الأميركية – الصينية، حيث تعكس زيارة لولا الآسيوية رفيعة المستوى، إلى جانب نشاط برابوو الدبلوماسي، رسالة واضحة مفادها أن القوى الآسيوية واللاتينية قادرة على بناء شراكات قوية خارج التحالفات التقليدية مع القوى الكبرى. وهذا التوجه لا يعبر عن موقف مناوئ للغرب، بل عن سعي واقعي إلى تنويع العلاقات في نظام عالمي متغير ومتعدد الأقطاب.
أما في ما يتعلق بنتائج الزيارة، فقد شملت مذكرات التفاهم الموقعة، التعاون في مجالات الطاقة والتعدين، واتفاقيات لتيسير التجارة، إضافة إلى خطط للتعاون في الصناعات الدفاعية. وإذا تحولت هذه التفاهمات إلى عقود ملزمة ومشروعات مشتركة، مثل إنشاء مرافق للمعالجة أو خطوط للإنتاج المشترك، فإن النتائج ستكون ذات أثر اقتصادي واستراتيجي عميق.
ومن شأن هذه المبادرات أن تخلق نقاط تقاطع جديدة في سلاسل التوريد العالمية للمعادن والمنتجات الدفاعية، ما يُسهم في تقليل الاختناقات الصناعية، ويفتح فرصاً أوسع للتصنيع المحلي. غير أن ما يبدو في ظاهره اتفاقاً اقتصادياً بمليارات الدولارات، يخفي في جوهره مسعى إلى بناء قدرات إنتاجية وتمويل مستدام بين البلدين.
وسيكون الاختبار الحقيقي لهذه الزيارة في مدى تحول المذكرات الموقعة إلى استثمارات فعلية ومشروعات ملموسة، لاسيما في قطاعات مثل معالجة النيكل وصناعة البطاريات والإنتاج الدفاعي المشترك، فالعقود الملزمة والالتزامات الصناعية هي وحدها ما يفصل الدبلوماسية الرمزية عن التحول الصناعي الحقيقي.
عامل محوري
ويُعدّ هيكل التمويل عاملاً محورياً في نجاح تلك المبادرات، حيث إن مشاركة بنك التنمية الجديد أو مؤسسات «البريكس» التمويلية ستوفر عمقاً مؤسسياً للمشروعات، وتحميها من الضغوط المالية الغربية. ومن ثم فإن القرارات التمويلية الصادرة عن مؤسسات «البريكس» ستكون مؤشراً رئيساً على مدى جدية تنفيذ هذه الخطط.
كما أن التفاصيل الدقيقة للعقود ستحدّد مدى نجاح الشراكة، فبنود نقل التكنولوجيا، ومتطلبات المحتوى المحلي، وترتيبات الملكية الفكرية المشتركة، هي التي ستقرر ما إذا كانت القيمة ستبقى داخل إندونيسيا، وما إذا كانت البرازيل ستصبح شريكاً إنتاجياً موثوقاً به في المنطقة. ولا يمكن للبيانات الصحافية أو التصريحات السياسية أن تحل محل الالتزامات القانونية الفعلية.
وتشير التجارب السابقة إلى أن هذا النهج قابل للتحقيق، حيث تمكّنت إندونيسيا من تحويل أكثر من 12 مذكرة تفاهم في مجال مواد البطاريات والسيارات الكهربائية، بقيمة تتجاوز 15 مليار دولار، إلى استثمارات حقيقية مع شركات عالمية مثل «إل جي» و«هيونداي» و«فوكسكون»، ما يبرهن على إمكانية تحويل التفاهمات إلى مصانع ومشروعات إنتاجية متكاملة، عندما يتوافر التمويل والسياسات الملائمة.
ويتسق هذا النموذج مع استراتيجية «التحوط الصناعي» التي تسعى من خلالها الدول إلى تنويع شركائها، وبناء بدائل صناعية بدلاً من الارتهان لمحاور اقتصادية محدّدة، لهذا السبب تبحث جاكرتا وبرازيليا عن شراكات عملية مرنة بدلاً من تحالفات مغلقة أو جامدة.
نجاح الزيارة
لكن إن لم تُترجم هذه الاتفاقيات إلى واقع ملموس، فقد تظل زيارة لولا دا سيلفا إلى إندونيسيا، رمزية الطابع، ما قد يثير شكوك المستثمرين، ويؤخر تطوير القدرات الإنتاجية، بل قد يؤدي إلى خيبة أمل شعبية تُقلل الزخم السياسي الداعم لمشروعات التعاون المستقبلية. والأسوأ من ذلك أن الصفقات الغامضة التي لا تتضمن شروطاً واضحة لنقل التكنولوجيا، قد تُعيد إنتاج النمط القديم من تصدير المواد الخام دون تنمية صناعية حقيقية، ما يُقوّض أهداف الاستقلال الاقتصادي التي تسعى جاكرتا إلى تحقيقها.
وفي نهاية المطاف، سيُقاس نجاح هذه الزيارة ليس بالتصريحات أو الصور، بل بالعقود الموقعة، وتمويل المشروعات، وتنفيذ البرامج المشتركة. فبدون هذه الخطوات العملية، لن تتجاوز الدبلوماسية بين البلدين حدود المجاملة السياسية.
توازن
أما بالنسبة لأستراليا، فإن عليها أن تنظر إلى هذا الزخم البرازيلي الإندونيسي باعتباره دافعاً لمراجعة عروضها الاقتصادية، وتعزيز نقاط قوتها في مجالات التعليم والخدمات المتقدمة والاستثمار الصناعي، لاسيما في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية. ولا ينبغي أن تُفسّـر تحركات جاكرتا نحو «البريكس» على أنها موجهة ضد كانبيرا، بل هي محاولة إندونيسية لبناء توازن في العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية. والنتيجة المتوقعة ستكون منافسة إيجابية تحفز الشركاء على تقديم صفقات أفضل وأعمق لإندونيسيا.
وهكذا يمكن اعتبار زيارة لولا إلى جاكرتا خطوة مزدوجة، فهي من جهة مناسبة دبلوماسية بارزة، ومن جهة أخرى مرحلة هيكلية في إعادة ترتيب الاقتصاد العالمي، وفرصة لتأسيس روابط صناعية جديدة بين أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. وإن تُرجمت الوعود إلى تنفيذ فعلي، فستعدّ الزيارة نجاحاً استراتيجياً كبيراً، أما إذا توقفت عند حدود النوايا، فستظل مجرد حدث بروتوكولي بريقه الإعلامي أكثر من جوهره الاقتصادي. عن «آسيا تايمز»
• البرازيل تسعى إلى تنويع شراكاتها في القارة الآسيوية، بينما تتطلع إندونيسيا إلى جذب استثمارات صناعية تخلق فرص عمل محلية.
